تدعمُ العقائد السماويّة في مُتُونِها قيمة التسامح، وما يتْبعها من ممارساتٍ سويّة، تحض على المحبة، والتقارب، وتؤكد على صورة التعايش السلمي، وتشير إلى الحرية المطلقة في اعتناق المعتقد، وهذا ما يحظر كل صور الجبْر، أو الإِرْغام، على تبني معتقدٍ بعينه، مهما تعالتْ القوة، وسادتْ السُّلْطةُ، وهنا نوثق ما أقررنا به بالآية الكريمة، والتي نتْلوها إلى يوم القيامة في قوله تعالى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) البقرة: 256.
وعندما ننظر إلى ماهيّة الدولة، نجد أنّ تكوينها يقوم على فلسفة التسامح؛ حيثُ إن استبعاد كل ما من شأنه يفرق، ويورث العصبيّةَ، والقبليّةَ، ويصنّف المجتمعاتِ، إلى طوائف؛ في المدينة قد عُرفتْ مُنْذُ فجر التاريخ نظامًا من التعامل المتحضّر، فيما يخصُّ التعاملاتُ الاجتماعيّة، والسياسيّة، وهذا ما يقوم على فكرة التسامح بصورةٍ عميقةٍ؛ إذ تراعي القيمة المصلحة العامة، وتقدمها على المصالح الخاصة، وتعزز ماهيّة الديمقراطيّة، والرأي الجماعي، وتفضله على صورة القرار، أو الحكم الفرْدي.
وإذا ما نظرنا إلى مفهوم لمّ الشمل؛ فإنه يتأكد لدينا أن تكوين المجتمعات، تُؤسَسُ على معايير تنْبري من قيم نبيلة، تخرج من البوابّة الكُبْرى، المتمثلة في التسامح، وهنا نشاهد مجتمعات قد انصهرتْ في الأنساب، والأعراق، وتوافقتْ على حرية المعتقدات عند حد مشاربها؛ حيث الاحترام، والتقدير المتبادل، ناهيك عن التوافق، والتكامل التام من أجل تحقيق التقدم، والنهضة، عبر الشراكة الفاعلة في الإعمار؛ ومن ثم فقد ساهمتْ قيمةُ التسامح في أن يتنازل الجميعُ عن كثير من الأمور، نظير بناء الدولة المدنيّة، في ضوء الالتفاف حول دستور حاكم يرتضيه الجميعُ، ولا يخرج أحدٌ عن نصوص مواده.
وفي ظل فعالية قيمة التسامح نعيش ماهيّة الاستقرار؛ حيث إنه لا خروج عن نظم الحكم؛ مهما تفاقمتْ التحدياتُ، واشتدتْ الأزماتُ؛ فقد اتفقت المجتمعات على آليات مشروعة، تقوم على السلميّة، التي تنسدل من فحوى التسامح، وهنا فإننا لا نعيش حياة مُضْطّربةً، قد يتنامى فيها النزاع، والاقتتال، من أجل غاية بعينها؛ لذا تدْحر الإجراءات التي تتمخض عن هذه القيمة النبيلة، كافة محاولات الفساد، والإفساد، بل، وتسد منابع الفتن بكل صورها، والتي صارت أنفسًا ضعيفةً، تتبنّي مخططاتٍ من أجل إشعالها.
ومن ثم فإني أرى أن قيمة التسامح، تُسْهم في تقارب الثقافات إلى حد كبير، بما لا يمس خصوصية المُعْتقد، وهنا أتحدث عن أوجه الاستفادة المتبادلة، بين تلك الثقافات المتنوعة، وهو ما يمكننا من اسْتكشاف الجوانب الإيجابية، في العديد من الثقافات، وما تتضمّنه من عادات، وتقاليد، وإِرْثٍ تاريخيّ؛ بما يساعد في عقْد الشراكات الثقافيّة، التي من شأنها تُثْري الجانب الفكريّ، والفلسفيّ، لدى المجتمعات، بل، وأزعمُ بأن هذا يحدُّ من صور التعصّب، والانفكاك عن فلسفة الانْغلاق، التي يغْرقُ فيها أصحابها بمعتقداتٍ، وأفكارٍ، لا تتقابل مع ماهيّة الوسطيّة، والاعتدال.
وأعتقد أنّ ثقافة التسامح تفْتح مسارات خصْبة للحريّة، في صورتها المسئوليّة، وهو ما يهيئ المناخَ، نحو اعتلاءِ قطار الابْتكار، في شتّى المجالات؛ حيثُ عدالة التّعامل، والتّوحد من أجل نفع البشرية، والتّخلي عن العصبيّة، وهُجْران فكرة التّمييز، بما يحفزُّ الجميعَ على العطاء، وأن يُقدّمَ كُلّ إنسان أفضل ما لديه، وهذا دون مُواربةٍ قد أقرّه العقلُ، والنَّقلُ، بل وثبت أثره الطيب على أرض المعمورة على مرّ الزمان، وعصوره المتنوعة.
إن التنْميةَ الحضريّة التي تنْشُدها المجتمعاتُ، وتسْعى المؤسساتُ إلى تحقيقها، يجب أن تقوم على قيمة التسامح، التي باتتْ غائبةً، في بعض الأركان، والمجالات، والمسارات، ليست هي بالقليلة؛ ومن ثم ندعو بقوة إلى تعْضيد قيمة التسامح، لدى أجيالٍ سوف تحْمل الرَّايةَ من أجل البناء؛ فالتسامحُ دون مواربةٍ بوّابةٌ للعطاء، وتأْصيلٌ للغة الحوار، وملاذٌ للصْفح، وتعْزيزٌ للمحبة، ومُنْطلقٌ للحريّة المسْئولة، بل، ومُدْخلًا رئيسًا لتنْمية الوعْي الصحيح في أنْماطه المختلفة.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة