ناهد صلاح

داود عبد السيد.. كيف يتحوّل التيه إلى وطن؟!

الأحد، 28 ديسمبر 2025 01:27 م


موجع جداً رحيل الكبار الذين شكلوا وعينا ووجداننا.. داود عبد السيد لم يكن مجرد مخرج، كان "صاحب رؤية"، صاحب عالم خاص جداً، لا يدخله إلا من يملك قلباً حقيقياً.

أفلامه كانت "طبطبة" على أرواحنا، كانت تخبرنا بأننا لسنا وحدنا في حيرتنا و"توهتنا" في  هذه الدنيا. ​السينما والجمهور برحيله، فقدوا بوصلة مهمة للجمال.

في تاريخ السينما العربية، نادرًا ما يمكن التعامل مع مخرج بوصفه مشروعًا فكريًا متصلًا لا مجرد صانع أفلام. داود عبد السيد واحد من هؤلاء القلائل؛ مخرج يضع الكاميرا في موقع الفيلسوف، لا لتسجيل الواقع بل لتفكيكه، وإعادة تركيبه بوصفه سؤالًا مفتوحًا عن الهوية، والحرية، والمعنى. أفلامه لا تُغلق نهاياتها بل تظل معلّقة داخل المتفرج، كأنها رسائل لم يُكتَب لها أن تصل.

منذ بداياته، اختار داود عبد السيد أن ينحاز إلى الهامش، لا بوصفه مكانًا اجتماعيًا فحسب، بل كحالة وجودية. أبطاله دائمًا على الأطراف: كفيف يرى أكثر مما ينبغي، موظف يضيع في المدينة، رجل يهبط إلى الجحيم بمهمة أخلاقية ثم ينسى إن كانت المهمة ما تزال قائمة. السينما عنده ليست حكاية، بل رحلة داخل عقل الإنسان وهو يكتشف أن العالم أقل منطقية مما تخيّل.

في "الكيت كات" (1991)، لا يقدّم داود الشيخ حسني كشخصية تستجدي التعاطف، بل ككائن حرّ يرفض شروط الواقع. العمى هنا ليس عجزًا، بل اختيار رمزي: الامتناع عن رؤية القبح، واستبداله بعالم يُبنى بالخيال والموسيقى والضحك.

الشيخ حسني لا يعيش رغم العمى، بل بفضله. إنه أول إعلان صريح في سينما داود أن البصيرة لا علاقة لها بالعين، وأن الحرية تبدأ حين نعيد تعريف نقصنا بوصفه إمكانية.

بينما يأت "البحث عن سيد مرزوق" (1991) كقفزة أكثر ظلمة وعبثية. إذ رأينا يوسف موظف بريء وساذج، يخرج في يوم إجازته ليلتقي بشخصيات غريبة منها صعلوك يرتدي ملابس شارلي شابلن، سيد مرزوق ملياردير غريب الأطوار متعدد الوجوه، شخصية مليئة بالتناقضات والغموض، يعشق الليل وجلسات المزاج.

يخرج يوسف من حياته الوظيفية الرتيبة ليقع في ليل القاهرة، مدينة تتحوّل إلى متاهة، وأشخاص بلا جذور، ولقاءات لا تفسير لها. سيد مرزوق ليس شخصًا يُبحث عنه بقدر ما هو فكرة: الفوضى الكامنة خلف النظام، والرغبة المكبوتة في كسر القالب. الفيلم هنا يبدو ككابوس يقظة، حيث يكتشف البطل  ومعه المشاهد، أن ما نظنه استقرارًا ليس سوى اتفاق هشّ مع العبث، وأن البحث الحقيقي ليس عن سيد مرزوق، بل عن الذات حين تنفلت من أقفاصها.

في "سارق الفرح" (1995)، ينزل داود كاميرته إلى قاع المدينة، لكن ليس بهدف رصد البؤس الاجتماعي، بل لاستنطاق "الرغبة" كقوة دافعة للوجود. فوق "باطن البقرة" (المكان الذي تدور فيه الأحداث)، تتحول حياة المهمشين إلى صراع محموم لانتزاع لحظة فرح واحدة "مسروقة" من زمن شحيح. يطرح الفيلم تساؤلاً فلسفياً حول ماهية السعادة؛ هل هي حق مشروع أم خلسة نغتنمها؟ في هذا العالم، لا يوجد أبطال مثاليون، بل بشر يحركهم الجوع للحب والتحقق، حيث يصبح "الزواج" أو "الدبلة" رمزاً مستحيلاً لانتصار الحياة على العدم. "سارق الفرح" هو صرخة داود التي تقول إن الجمال قد يولد من رحم القبح، وأن الإنسان يظل يقاوم طالما أنه ما زال قادراً على "الرغبة".

​تبلغ رحلة داود ذروتها الفلسفية في "أرض الخوف" (2000)، الفيلم الذي يمكن اعتباره قلب مشروع داود عبد السيد. هنا لا يعود البطل هامشيًا بالمعنى الاجتماعي، بل إنسانًا يُلقى في مواجهة الوجود ذاته. يحيى المنقباوي يُكلَّف بمهمة سرية، ثم يُترك وحيدًا، مقطوع الصلة بالمصدر، كأن الفيلم يعيد كتابة أسطورة الهبوط الأولى: إنسان يُرسل إلى العالم ليؤدي واجبًا أخلاقيًا، ثم يكتشف أن السماء صامتة.

عبقرية "أرض الخوف" لا تكمن في عالم المخدرات الذي يدخله البطل، بل في تلك الرسائل التي يكتبها بلا رد. التقارير تتحوّل إلى اعترافات، والكتابة تصبح وسيلة وحيدة لحماية الهوية من الذوبان. إنه فيلم عن صمت السلطة، وصمت المعنى، وصمت الله إن جاز التعبير. مع ذلك، لا ينهزم يحيى حين يفقد الإجابة، بل حين يفهم أن السؤال ذاته هو المصير.

في فيلم "مواطن ومخبر وحرامي" (2001)، ينتقل داود من التجريد الفلسفي إلى تشريح المجتمع المصري في لحظة تحول حرجة. هنا، يجمع داود أقطاب المجتمع الثلاثة في مشهد عبثي واحد: "المثقف" (المواطن)، و"السلطة" (المخبر)، و"المنفذ" (الحرامي). يطرح الفيلم رؤية صادمة حول تداخل هذه القوى؛ حيث يتصالح المثقف مع فساد الحرامي وسطوة المخبر، ليذوب الجميع في سبيكة واحدة من "التعايش المشبوه". السينما هنا لا تكتفي برصد الواقع، بل تعلن عن نهاية زمن النقاء الأخلاقي، مؤكدة أن "أرض الخوف" لم تعد غابة بعيدة، بل أصبحت صالة بيوتنا التي نجلس فيها جميعاً خلف أقنعة زائفة.

المكان في سينما داود عبد السيد ليس خلفية محايدة، بل كائن حيّ يعكس اضطراب الروح. من حارة "الكيت كات" إلى ليل القاهرة، وصولًا إلى البحر في "رسائل البحر" (2010)، حيث نرى تحوّلًا لافتًا في نبرة المشروع. الإسكندرية هنا ليست مدينة بقدر ما هي ملاذ أخير، والبحر ليس رمزًا رومانسيًا، بل مساحة اعتراف. في هذا الفيلم، لا يبحث البطل عن إجابة كبرى، بل عن سلام مؤقت مع ذاته، عن قبول هشاشته، وعن التعايش مع التلعثم بوصفه جزءًا من الوجود.

هذا منحى أخر من فلسفة توصل إليه داود في خواتيم مشواره، تحديداً هنا في "رسائل البحر"، كذلك في "قدرات غير عادية" (2015)، حيث ركز داود على الهدوء، وهو نوعا الهدوء الصوفي.

في "رسائل البحر"، يصبح البحر هو "المُطهر" والجواب النهائي لضياع الرسائل القديمة. أما في "قدرات غير عادية"، فيصل داود إلى النتيجة النهائية لرحلته: المعجزة الحقيقية ليست في الخوارق، بل في العادي. القدرة على الحب، والمقاومة، والدهشة وسط قبح العالم هي "القدرة غير العادية" التي تمنحنا الخلاص. يبتعد داود عن صخب المدينة ليلجأ إلى السكينة، مؤكداً أن الخلاص لا يأتي من الخارج، بل من تصالحنا مع ضعفنا البشري.

رغم أن قائمة أفلام داود عبد السيد ليست طويلة بالمعايير الكمية، إلا أن كل فيلم منها يمثل "حجر زاوية" في الوجدان السينمائي. داود هو المخرج الذي يكتب أفلامه بتمهل الشاعر وتدبر الفيلسوف؛ لذا لم يكن إنتاجه غزيراً، لكنه كان عميقاً وراسخاً.. سينما داود عبد السيد، في جوهرها، مرثية طويلة للإنسان الذي أضاع خريطة العودة، فاختار أن يصنع أخلاقياته الخاصة داخل التيه. أبطاله لا ينتصرون بالمعنى التقليدي، بل ينتصرون حين يفهمون قواعد اللعبة: الشيخ حسني ينتصر بخياله، يوسف ينتصر بكسر رتابته، يحيى ينتصر حين يعترف بأن الزمن أقوى منه.

لهذا لا تتركنا أفلام داود عبد السيد نناقش حبكتها، بل تدفعنا لمواجهة أسئلتنا الخاصة:
أين نقف من هذا العالم؟
وماذا نفعل حين لا تأتينا الإجابات؟
وهل يمكن أن يكون التيه… شكلًا آخر من أشكال الحرية؟
في سينما داود عبد السيد، لا نجد يقينًا، لكننا نجد أنفسنا. وهذا، ربما، أعظم انتصار للسينما.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة