حسين السيد يكتب: توماس كارليل يدافع عن النبي عليه الصلاة والسلام

الأحد، 05 أكتوبر 2025 06:30 م
حسين السيد يكتب: توماس كارليل يدافع عن النبي عليه الصلاة والسلام توماس كارليل

لقد دافع كثير من الكتاب الغربيين عن صاحب الرسالة النبى محمد صلى الله وعليه سلم وأنصفوه، فلا ننسى المستشرقة الألمانية "زيجريد هونكة" وكتابها الشهير "شمس الإسلام تسطع على الغرب"، وهو للدفاع عن الحضارة الإسلامية، وكذلك الأديب الأيرلندى جورج برنارد شو، والأديب الروسى ليو تولتسوى وكتابه "حكم النبى محمد"، والكاتب الأمريكى مايكل هارت وكتابه "الخالدون مائة .. أعظمهم محمد" وجعل النبى محمدا الشخصية الخالدة رقم واحد، وفى البداية كتب يقول:" لقد اخترت محمدا فى أول هذه القائمة، ولا بد أن يندهش كثيرون لهذا الاختيار، ومعهم حق فى ذلك، ولكنَّ محمدا هو الإنسان الوحيد فى التاريخ الذى نجح نجاحا مطلقا على المستويين الدينى والدنيوى، وهو قد دعا إلى الإسلام ونشره كواحد من أعظم الديانات، وأصبح قائدا سياسيا وعسكريا ودينيا، وبعد 13 قرنا من وفاته فإن أثر محمد ما زال قويا ومتجددا"، والقائمة تطول وتطول لو عددنا وذكرنا من أنصف الإسلام وصاحب الرسالة.

ومن الذين دافعوا عن الرسول (ص) وترك أثرا فى نفسى يأتى المفكر الأسكتلندى الكبير "توماس كارليل"، صاحب كتاب "الأبطال وعبادة البطولة" من ترجمة الأديب محمد السباعى، وكذلك صاحب "فلسفة الملابس" من ترجمة طه السباعى، ومن أراد أن يفهم كارليل فعليه أن يقرأ ما كتبه العقاد عنه عندما وصفه بقوله: "قل إنه شاعر أو إنه كاهن، أو إنه ناقد، أو إنه فيلسوف، ولكنك لا تستقر له على صفة حتى تراه على غيرها قبل أن تختم الفصل، أو تقلب الصفحة، فهو لجنة من أصحاب الفكر والأدب فى زى رجل واحد، وهو نسيج وحده فى التفكير يؤخذ كما هو ولا يعنيك إلى أى طائفة من الطوائف تنميه".

وقد كتب العقاد عن كتابه "فلسفة الملابس"، ونصح القارئ الذى يهمُّ بأن يقرأ الكتاب بنصائح مفيدة فيقول: "ثم نوصى القارئ بأن يحذف العنوان ويتجاوز عنه، ويقرأ الرسالة على أنها مجموعة متفرقة بغير عنوان لا على أنها رسالة فى فلسفة الملابس أو فى أى فلسفة أخرى، فإذا هو صنع ذلك لم يفته أن يعثر فى كل فصل على نبذة حكيمة، أو خطرة لامعة، أو لمحة شعرية، أو نكتة جدية، فيأتى عليه وهو غير نادم على تعبه فيه ولا مستزهد لمحصور منه"، واستدل العقاد على صحة كلامه بعدة استشهادات اختارها غير معتمد على ترتيب الصفحات ومن ذلك قول كارليل: "إن العقيدة مهما صحت وقويت هى شىء عديم القيمة إن لم تصبح جزءا من السلوك والخلق، بل هى فى الواقع لا وجود لها قبل ذلك؛ لأن الآراء والنظريات لا تزال بطبيعتها شيئا عديم النهاية عديم الصورة، كالدوامة بين الدوامات، حتى يتهيأ لها من اليقين المؤسس على الخبرة الحسية محور تدور عليه، عندئذ تصير إلى نظام معين".

وهذا كلام فى غاية الأهمية؛ نظرا لأن القول إذا كان غير مقترن بالفعل كان هذا عبثا ولم يقتنع بك الآخرون، وباءت كل محاولاتك لإقناع الناس بالتزام ما تدعوهم إليه، باءت بالفشل إن كنت تقول شيئا وتفعل شيئا آخر.

• وجاءت المحاضرة الثانية من كتاب كارليل "الأبطال" تحت عنوان: البطل فى صورة رسول: محمد – الإسلام، وكلامه عن الرسول لا يحمل إلا إعجابا وتقديرا له صلى الله عليه وسلم، ودفاعا عنه وصد هجمات المشككين فيه وفى رسالته، فتعرض لأراجيف الغرب، كل ذلك جاء بلغة عذبة صافية رقراقة متدافعة، وكأنه يستقى من نبع صاف أبعد عنه شوائب الفكر الضال، ورجع إلى الفطرة السليمة "فطرة الله التى فطر الناس عليها"؛ إذ كان يبحث عن الحقيقة والباحث عن الحقيقة لا بد من أن يجدها فى الإسلام، وكأن واحدا من أتباع الإسلام هو من كتب المحاضرة وليس كارليل، أو قل لو حذفنا بعض العبارات الواردة فى المحاضرة وحذفنا اسمه من على غلاف الكتاب، وطلبنا إلى القارئ أن يحدد هوية الكاتب، لارتج الأمر عليه، ولقال على الفور: هذا الكلام لا يصدر إلا عن مسلم!. ولا أعلم كيف كان حال كارليل وهو يكتب المحاضرة، هل كانت يده هى ما تكتب ما يمليه عليه عقله، أم أنه كان يمتح من لدن رب العالمين، مع حذف ما يتنافى مع عقيدتنا الإسلامية؟!

• فيقول كارليل فى أول محاضرته:" لقد أصبح من أكبر العار على أى فرد متمدين من أبناء هذا العصر أن يصغى إلى ما يظن من أن دين الإسلام كذب، وأن محمدا خداع مزور، وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة"، ورغم أن كارليل من كتاب القرن التاسع عشر (1795 – 1881) أى عصر التمرد على الدين والثوابت وهو واضح فى كلامه، لكنه كان أكثر إيمانا بهذه الحقيقة من بعض الناس. ومن صدَّق أن الإسلام كذب ومحمدا مزور – حاشا لله- فإن كارليل يرد عليه :"فو أسفاه! ما أسوأ مثل هذا الزعم وما أضعف أهله وأحقهم بالرثاء والمرحمة".

• هل كان محمد يتخذ من الوسائل ذريعة للوصول إلى بغيته؟ يقول كارليل فى هذا:"لسنا نعد محمدا هذا قط رجلا كاذبا متصنعا يتذرع بالحيل والوسائل إلى بغية، أو يطمح إلى درجة ملك أو سلطان أو غير ذلك من الحقائر والصغائر. وما الرسائل التى أداها إلا حق صراح، وما كلمته إلا صوت صادق صادر من العالم المجهول". ثم يؤكد هذا القول مرة أخرى وكأنه يرد على الطاعنين عليه من أبناء جنسه "كلَّا ما محمد بالكاذب ولا الملفق وإنما هو قطعة من الحياة قد تفطر عنها قلب الطبيعة، فإذا هى شهاب قد أضاء العالم أجمع. ذلك أمر الله وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وهذه حقيقة تدمغ كل باطل وتدحض حجة القوم الكافرين".

• ويرد كارليل على من ادَّعى أن محمدا كان يريد تحقيق شهرة شخصية له أو كان يريد بدعوته الجاه والسلطان، يقول"ويزعم المتعصبون من النصارى والملحدون أن محمدا لم يكن يريد بقيامه إلا الشهرة الشخصية ومفاخر الجاه والسلطان. كلا وايم الله لقد كان فى فؤاد ذلك الرجل الكبير ابن القفار والفلوات المتوقد المقلتين العظيم النفس المملوء رحمة وخير... أفكارٌ غير الطمع الدنيوى، ونوايا خلاف طلب السلطة والجاه... لقد كان منفردا بنفسه العظيمة وبحقائق الأمور والكائنات... أيزعم الكاذبون أنه الطمع وحب الدنيا هو الذى أقام محمدا وأثاره؟ حمق وايم الله وسخافة. أى فائدة لمثل هذا الرجل فى جميع بلاد العرب وفى تاج قيصر وصولجان كسرى وجميع ما فى الأرض من تيجان وصوالجة؟ وأين تصير الممالك والتيجان والدول جميعها بعد حين من الدهر؟".

• ويرفض كارليل فكرة انتشار الإسلام بالسيف، وإذا سلمنا بأن الإسلام انتشر بحد السيف فإنه يبرر لجوءه إليه، ورغم أننا نختلف معه فى هذه النقطة فإنه لا مانع من الاستئناس برأيه فى هذا الزعم، فيقول:"ولقد قيل كثيرا فى شأن نشر محمد دينه بالسيف، فإذا جعل الناس ذلك دليلا على كذبه فشد ما أخطأوا وجاروا، فهم يقولون ما كان الدين لينتشر لولا السيف، ولكن ما الذى أوجد السيف؟ هو قوة ذلك الدين وأنه حق والرأى الجديد أول ما ينشأ يكون فى رأس رجل واحد فالذى يعتقده هو فرد – فرد ضد العالم أجمع، فإذا تناول هذا الفرد سيفا وقام فى وجه الدنيا فقلما والله يضيع، وأرى على العموم أن الحق ينشر نفسه بأى طريقة حسبما تقتضيه الحال"، ثم راح يدلل على صواب فكرته بما كانت تفعله المسيحية فى غير المؤمنين يقول:" أو لم تروا أن النصرانية كانت لا تأنف أن تستخدم السيف أحيانا؟ وحسبكم ما فعل شارلمان بقبائل السكسون، وأنا لا أحفل أكان انتشار الحق بالسيف أم باللسان أم بأى آلة أخرى، فلندع الحقائق تنشر سلطانها بالخطابة أو بالصحافة أو بالنار، لندعها تكافح وتجاهد بأيديها وأرجلها وأظافرها، فإنها لن تهزم إلا ما كان يستحق أن يهزم، وليس فى طاقتها قط أن تفنى ما هو خير منها بل ما هو أحط وأدنى".

أى أن الإسلام إذا كان هو الحق – وهو الحق - فإنه لا مانع عند كارليل من استعمال أى وسيلة لإنفاذه، وقريب من قول كارليل قولنا: إن الإسلام يشبه الأب الذى يقسو على ابنه لإنقاذه من طريق الشر الذى يسير فيه، ويحاول الأب إقناع ابنه بأنه على ضلال وأنه لا بد من العودة إلى الطريق المستقيم، فإذا فشلت محاولاته وأحس أن ابنه هذا قد يجر رجل إخوته الباقين، فمن المؤكد أن الأب سيستخدم العنف والضرب وسيلة لإرجاع ابنه عن غيه وضلاله إلى طريق الحق.

• ويعتقد بعض المتعصبين من أعداء الدين أن محمدا رجل شهوانى، رجل يبحث عن الملذات، يحبُّ الدنيا، فرد عليهم كارليل بقوله:"وما كان محمد أخا شهوات برغم ما اتهم به ظلما وعدوانا، وشد ما نجور إذا حسبناه رجلا شهويا لا همَّ له إلا قضاء مآربه من الملاذ، كلا، فما أبعد ما كان بينه وبين الملاذ أيا كانت. لقد كان زاهدا متقشفا فى مسكنه ومأكله ومشربه وملبسه وسائر أموره وأحواله. وإنهم ليذكرون أنه كان يصلح ويرفو ثوبه بيده، فهل بعد ذلك مكرمة ومفخرة؟ فحبذا محمد من رجل خشن اللباس خشن الطعام مجتهد فى الله قائم النهار شاهر الليل،دائب فى نشر دين الله غير طامح إلى ما يطمح إليه أصاغر الرجال من رتبة أو دولة أو سلطان..".

• أما ما يميز الإسلام من وجهة نظر كارليل فقوله:"وفى الإسلام خلة أراها من أشرف الخلال وأجلها، وهى التسوية بين الناس، فالناس فى الإسلام سواء"، ثم تحدث عن الزكاة فى الإسلام، وهى من وجهة نظره صوت الإنسانية، صوت الرحمة والإخاء والمساواة.

• رد كارليل على بعض المفكرين الذين وصفوا الإسلام بأنه دين الشهوة والملذات وأنه دين سهل ودخول الناس فيه ما هو إلا لسهولته، كما تحدث عن الذين قالوا إن الحسية والمادية تغلب على أوصاف الجنة والنار، فماذا كان رده على هذه التهم، خاصة أنه قد ترددت وكثرت فى عصره، جاء رده كالآتى: "قد قيل وكتب كثيرا فى شهوانية الدين الإسلامى، وأرى كل ما قيل وكتب جورا وظلما، فإن الذى أباحه محمد مما تحرمه المسيحية لم يكن من تلقاء نفسه وإنما كان جاريا متبعا لدى العرب من قديم الأزل، وقد قلل محمد هذه الأشياء جهدَه وجعل عليها من الحدود ما كان فى إمكانه أن يجعل.. والدين الإسلامى بعد ذلك ليس بالسهل والهين، وكيف ومعه كل ما تعلمون من الصوم والوضوء والقواعد الصعبة الشديدة.. إقامة الصلاة خمسا فى اليوم، والحرمان من الخمر.." وأقول إن اتخاذ بعض المسلمين أديانا أخرى غير الإسلام راجع إلى قواعد الإسلام التى يرونها متشددة، فكل يوم لا بد من إقامة الصلاة خمسا، مرة فى الفجر ومرة ومرة.. وصوم رمضان وهو شاق على البعض، وإذا كان فى الصيف فإن ضعاف النفوس من المسلمين لا يتقيدون بالصوم.. إلخ، وتحدث كارليل عن الماديات والحسيات التى أتت فى كتب المفسرين عن وصف الجنة والنار فيقول، نافيا التهمة عن الإسلام:" القرآن قد أقلَّ جدا من إسناد الحسيات والماديات إلى الجنة والنار، وكل ما فيه عن هذا الشأن إيماء وتلميح"، وألقى كارليل باللوم على المفسرين والشراح الذين أسندوا إلى الجنة والنار كل ما هو حسى ومادى، ويتابع كارليل رده: لا تنسوا أن القرآن جعل أكبر ملاذ الجنة روحانيا إذ قال: "وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين"، فالسلام والأمن هما فى نظر كل عاقل أقصى أمانى المرء وأعظم الملاذ قاطبة.

وأعطانا كارليل دليلا آخر على براءة الإسلام من الميل إلى الملاذ والشهوانية، وهو شهر رمضان، فيقول: "فيه تلجم الشهوات، وتزجر النفس عن غاياتها، وتفرغ عن مآربها، وهذا منتهى العقل والحزم".

• لماذا كان يحب كارليل محمدا؟ وما دافعه كى يدافع عنه؟ الإجابة هى أن كارليل يحب محمدا لـ"براءة طبعه من الرياء والتصنع، ولقد كان ابن القفار (الصحراء) هذا رجلا مستقل الرأى لا يعول إلا على نفسه ولا يدَّعى ما ليس فيه. ولم يكن متكبرا ولكنه لم يكن ذليلا ضرعا، فهو قائم فى ثوبه المرقع يخاطب بقوله الحر المبين قياصرة الروم وأكاسرة العجم يرشدهم إلى ما يجب عليهم لهذه الحياة وللحياة الآخرة.. وكان رجلا ماضى العزم لا يؤخر عمل اليوم إلى الغد.. كما أن محمدا ما كان بعابث قط ولا شاب شيئا من قوله شائبة لعب ولهو.. وأما التلاعب بالأقوال والقضايا المنطقية والعبث بالحقائق فما كان من شأنه قط"، وتحدث كارليل عن فضائل القرآن ومنها أن الإخلاص والمحض الصراح هو فضيلة القرآن التى حببته إلى العربى المتوحش، وهو شديد الإعجاب بما جاء فى القرآن من النظر الذى ينفذ إلى أسرار الأمور، وقد رد كارليل على المستشرق "براديه" وأمثاله الذين زعموا أن القرآن هو طائفة من الأخاديع والتزاويق لفَّقها محمد لتكون أعذارا له عما كان يرتكب ويقترف، معاذ الله أن يكون القرآن تلفيقا من الرسول، فقال كارليل:"قد آن لنا أن نرفض جميع هذه الأقوال وإنى لأمقت كل من يرمى محمدا بمثل هذه الأكاذيب"، ويستمر كارليل فى الإشادة بالقرآن إشادة لا نجدها عند بعض المسلمين.

• لا أريد أن أطيل فى هذا، فقد كفانا كارليل مئونة الرد على المشككين فى رسالة النبى (ص)، وقد أغفلنا كثيرا من هذه الردود، رغم أن بعضها لا يغنى عن بعضها الآخر، كما أننا أسقطنا ما نراه تعارضا مع الإسلام، وهو ليس ذا أهمية كبيرة، فمحاضرة كارليل تنضح بحب الرسول (ص). كما أنها واضحة الدليل وكتبت بأسلوب مشرق، تدل على فهم كارليل الصحيح للإسلام.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب


الموضوعات المتعلقة