فى السادس والعشرين من ديسمبر سنة 1960، عقد مجمع اللغة العربية بالقاهرة جلسة تأبين لعضو المجمع حايم ناحوم أفندى، وحضر الجلسة عدد كبير من أعضاء المجمع، وألقى الأديب الكبير عباس العقاد كلمة التأبين.
وبالطبع كنت أعلم أنه من ضمن الرعيل الأول الذى به أُسس مجمع اللغة العربية، وكان هو الاسم الثانى الوارد فى مرسوم الملك فؤاد الذى صدر فى السادس من أكتوبر سنة 1933، وأتى اسمه بعد محمد توفيق رفعت باشا رئيس المجمع، وتوقفت معرفتى به عند هذا الحد، واعتقدت أن هذا مجرد تكريم للطائفة اليهودية التى كان هو الحاخام الأكبر لها فى مصر، أو نظرا لكونه مترجم الملك فؤاد، لكنى غيَّرت هذه النظرة بمجرد أن قرأت عن سيرته وعن إسهاماته، وخاصة فى كلمة العقاد الوافية عند تأبينه، وسأعود إليها كثيرا؛ لأنها تؤيد فكرتى عنه ووجهة نظرى تجاهه.
حايم ناحوم أفندى
لا شك أنه سيكثر الكلام حول موقفه من الصهيونية، بل قل إن الناس سيرتابون فيه هو شخصيا فى ذاك الوقت الشديد الخطورة البالغ الأهمية، فهل كان مع الصهيونية أم ضدها؟ هل ساعد اليهود على الخروج من مصر إلى فلسطين أم لا؟ هل كان رجل الصهاينة فى مصر أم مجرد وطنى مصرى مخلص؟
ما يميل إليه رأيى وأرتاح إليه هو أنه من المعادين لفكرة الصهيونية، ومن المعادين لكل ما يحدث على أرض فلسطين من مجازر وجرائم بشعة، ومن المعادين لعدوان 1956، ومن المحبين لوطنه مصر، ومن المدافعين عنها، ومن المؤيدين للزعيم جمال عبد الناصر، ويحق لنا القول بأنه رجل مصرى بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فيفرح لانتصاراتها ويحزن لانكساراتها، وعلينا ألا نحمل عليه لكونه يهوديًّا، وهذا العقاد فى بداية كلمته لم يأخذه بجريرة بنى إسرائيل، بل قال: "واجب السماحة التى تعرف للعلم حقه، وتعرف لصاحب الفضل فضله، ولا تحمله وزر شركائه فى العقيدة لأن أناسا ينتمون إليها يعتدون، ولأنهم فى عدوانهم يخرقون كل شريعة، ولو كانت شريعة ينتسبون إليها، وباسمها يدعون ما يدعون". وهذا يعنى أننا يجب ألا نغمط حق الرجل لأنه ينتمى إلى اليهود الذين اغتصبوا أرض فلسطين وانتهكوا حرماتها، وشنوا علينا العدوان سنة 1956، فلم يكن "حايم" مؤيدا لكل تلك الانتهاكات، وإنما هو رجل انتمى إلى مصر وتجنس بجنسيتها سنة 1929. وهذه دعوة من العقاد إلى عدم الانتقاص من قدر "حايم" لكونه يهوديا، أو إهمال ذكره، أو وصمه بالخيانة والعار، فيجب علينا ألا ننظر إليه على أنه من هؤلاء الملاعين المغضوب عليهم، وإنما هو رجل أفاد اللغة العربية إفادة كبيرة، وأحب تراب مصر وفيها دفن، كما أن هذا مبدأ نؤمن به نحن المسلمين، ولِمَ لا وقد ورد فى القرآن الكريم: "ولا تزر وازرة وزر أخرى" أى لا يؤخذ شخص بذنب غيره، إنما يتحمل كل واحد إثمه.
حسين السيد
ثم يتحدث العقاد عن تولى "حايم ناحوم" منصب الحاخام الأكبر للطائفة اليهودية بمصر فى أحلك الظروف؛ حيث اقتسام فلسطين، وحرب 1948، وثورة يوليو المجيدة، والعدوان الغاشم على مصر فى 1956، وهنا يظهر معدن الرجل، حيث يتصرف بكل حكمة وحنكة، فقال: "فخرج من هذا الحرج بمثل يقتدى به أتباعه ومريدوه، وعلَّم المتعلمين منهم على يديه أنهم فى هذا الموطن مسئولون عن ذمامه وحسن مقامه، وأن انتماءهم إلى إسرائيل لا يدخلهم فى عداد المنتمين إلى إسرائيل".
ففى حرب 1948 يصدر حايم ناحوم نداء للتبرع لجنود الجيش المصرى فى فلسطين رغم أنهم زعموا أنه قد أرغم على ذلك، وأنا أرفض هذا الزعم وأطعن عليه، وذلك لأن -بمنتهى البساطة- الدولة المصرية دخلت حربًا مع العصابات الصهيونية، والحاخام يعيش على أرض مصر، فأمامه حلان، الأول إما أن يهاجر من مصر ويتجه إلى أى دولة معادية لمصر إن لم يكن إسرائيل ويعلن ولاءه لها، ويهاجم مصر كما فعل من غادروا مصر إلى إسرائيل. والحل الثانى: لو رفض التبرع للجيش المصرى بفلسطين فالسجن فى انتظاره؛ لأنه ساعتها سيعد خائنا وجاسوسا، وهو ما لم يحدث؛ حيث لم يغادر مصر ولم يسجن. راجع (يهود مصر دراسة فى الموقف السياسى 1897- 1948) للدكتور محمود سعيد عبدالظاهر. وقبل عدوان 1956 بأيام قليلة يشكر الرئيس جمال عبدالناصر لأنه سهل له مسألة السفر للخارج طلبا للعلاج، مع الموافقة على التكفل بعلاجه، فقال لمندوب الأهرام "إنه إذ يبادر بعد عودته من أوروبا بالحضور إلى دار الرياسة، ويطلب مقابلة السيد الرئيس فذلك لتأدية واجب كبير عليه هو أن يقدم لزعيم مصر الرئيس جمال عبد الناصر أصدق عبارات الشكر على ما لقيه من حكومته الراشدة فى سبيل تيسير وسائل سفره للخارج، فقد منحته الحكومة المصرية جواز سفر خاصا من وزارة الداخلية، كان سببا قويا فى الحفاوة التى استقبل بها فى الخارج، وذلك فضلا عن أن الحكومة المصرية أجابته إلى كل ما طلبه من الناحية المالية والعلاج إلى جانب التيسيرات الأخرى فى السفر". راجع (اليهود فى مصر بين قيام إسرائيل والعدوان الثلاثى) للدكتور نبيل عبدالحميد سيد أحمد. فهنا الحاخام شأنه شأن أى مواطن مصرى، من حقه تسهيل سفره للخارج للعلاج، ومن حقه أيضا العلاج على نفقة الدولة.
إن الموقف العصيب الذى مرت به البلاد فى أثناء قيام إسرائيل، جعل بعضهم يُشكِّك فى نيَّة الرأس الأكبر للطائفة اليهودية "حايم ناحوم"، ما دفعه إلى الرد على كل من يشكك فى وطنيته وهويته المصرية، فهذا العلامة محمود شاكر يعلق فى مجلة "الرسالة" فى ديسمبر 1947، بعنوان "فلسطين.. ثلاثة رجال" على كلام الحاخام الذى قال: إن "أبناء الطائفة الإسرائيلية التى أتشرف برياستهم الدينية هم جزء لا يتجزأ من الأمة المصرية، يشعرون بشعورها ويتألمون لألمها. فكيف إذن يحاول البعض التشكيك فى عواطفهم نحو أبناء بلدتهم المصريين. إن دستور البلاد يكفل لنا جميع الحقوق الممنوحة لأبناء مصر الكريمة سواء بسواء، ولذلك فإن واجبنا نحو بلادنا يجعلنا نعمل بشعورنا كمصريين. وقد أصدرت أمرى إلى رجال الكنائس الإسرائيلية يإقامة الطقوس الدينية ليعظوا فيها أبناء الطائفة على أن يتضافروا مع إخوانهم المصريين فى هذا الظرف العصيب"، راجع مقال العلامة محمود شاكر بالرسالة، عدد ديسمبر 1947.
وشكر العلامة شاكر موقف الحاخام النبيل من القضية الفلسطينية، وكلامه الواضح الذى ليس فيه التواء أو تحايل أو لبس، بل كلامه فاصل فى هذه القضية، لكنه كان يريد منه ترجمة هذا الكلام على أرض الواقع، أن يتطابق الكلام مع العمل، فقال:" ونحن نشكر الحاخام الأكبر، ولكن ليعلم سیادته أنه قبل أن يتوجه إلينا بکلام یکون (حدًّا فاصلا) ینبغی أن يعمل هو وأبناء طائفته عملا یکون (حدًّا فاصلا)، وهذا مع الأسف لم يحدث قط، وأخشى أن أقول إنه لن يحدث قط". وهذا صحيح، فالحاخام لم يكن ليستطيع أن يسيطر على ألاعيب اليهود داخل مصر أو خارجها بالطبع، وكان يكفيه إدانة مثل هذه التصرفات التى كانت تحدث بين الفينة والأخرى.
وعند تأميم قناة السويس يعلن أمام الملأ، أن جميع اليهود فى مصر يؤيدون جمال عبدالناصر بقوة فى مواقفه الوطنية التى يهدف من ورائها إلى ما فيه رفع شأن مصر وشعبها الوفى.
وعقب العدوان أذاع حايم نحوم أفندى بيانا نشر بجريدة الأهرام بتاريخ 21 ديسمبر سنه 1956 قال فيه: إننا نود مرة أخرى أن نشارك مواطنينا فى استنكار الاعتداء البريطانى الفرنسى الإسرائيلى الغاشم على وطننا العزيز مصر. وإننا نرفع إلى المولى عز وجل أحر الدعوات لمجد مصر ورفاهياتها وسعادة أبنائها جميعا. إن اليهود المصريين جزء لا يتجزأ من الأمة المصرية وهم يتمتعون بكل ما يتمتع به المواطن المصرى الصالح وعلى ذلك فليس لأى دولة أجنبية سواء كانت هذه الدولة هى إسرائيل أم غيرها أية صفة للتحدث باسمهم؛ إذ إن اليهود المصريين هم مصريون أولا، وهم يشاركون مواطنيهم جميعا فى شعورهم الوطنى النبيل"، راجع (هل تنتحر اللغة العربية) للكاتب رجاء النقاش. وأنت تلاحظ هنا أن إسرائيل حاولت أن تصطاد فى الماء العكر عن طريق الإعلان بأن مصر بقيادة عبدالناصر تعامل اليهود معاملة سيئة، وتضطرهم إلى الفرار منها، وتطردهم من ديارهم، لكن الحاخام سد عليهم بالطريق بأن أذاع فى الأهرام بأنهم مواطنون مصريون، ويعيشون فى أمان وينعمون بالراحة، كما يصيبهم ما يصيب إخوانهم فى الوطن. وفى هذا دليل على وطنية حايم نحوم، فهو ليس مجبرا على التصريح بما صرح به؛ فإما الرحيل إلى إسرائيل أو إلى بلد آخر ومهاجمة نظام عبدالناصر الذى يقف لإسرائيل بالمرصاد، وإما السجن والاعتقال ويكون عبدالناصر محقا فى اعتقاله، فهو خائن للوطن، عميل لدولة أجنبية، وهو ما لم يحدث فى الحالتين، فلم يهاجر ولم يسجن.
نعود إلى كلمة العقاد فى تأبينه، أوضح أن حايم نحوم كان حريصا على الالتزام بتعاليم المجمع، فإذا صادف أن عُقدت جلسة يوم السبت، وهو يوم لا يعمل فيه اليهودى؛ فهو يوم كما نعلم للراحة والتفرغ للعبادة عملا بما جاء فى سفر التكوين:"لذلك بارك الله يوم السبت وقدسه لأن فيه استراح الرب من جميع أعماله" (تكوين 2: 1-3)، وهو إذا كان حاخامًا للطائفة اليهودية، فمن باب أولى أن يكون قدوة لأتباعه من طائفته، فلا يخرج من بيته يوم السبت، لكنه لا يلتزم بهذه التعليمات الدينية، وراح يمارس عمله المجمعى فى الدفاع عن اللغة العربية، وفى ذلك يقول العقاد :"وعرفه المجمع عضوًا فيه يحرص على مطالبه وتكاليفه ويوفق بينها وبين عامه المطالب والتكاليف، حتى ما كان منها فرضا لزاما للحبر الأكبر والإمام المختار بين طائفته فى هذه الديار.. فإذا انعقد المجمع يوم السبت فى جلسة من جلساته الطارئة حضر الحاخام ولم يتخلف، ولكنه يحضر مشيا على قدميه، ولا يركب سيارته، أو يكلف سائقها أن يعمل فى سوقها ذلك اليوم، واشترك خلال الجلسة فى مباحث العلم التى لا يأباها عليه الدين". وفى هذا الكلام أيضا دليل على أنه لو كان عميلا لإسرائيل لامتنع من حضور جلسات المجمع يوم السبت، وهو يوم عطلة فى شريعته، فلن يُلام على غيابه، لكنه لا يفعل ذلك بل يحضر ويدافع عن اللغة العربية.
لم ينضم إلى عضوية المجمع إلا لأنه بارع متقن لعدد من اللغات الأجنبية، فكان يتقن الفرنسية والإسبانية والتركية والعربية والعبرية والحبشية، ليس هذا فحسب بل كان يلم ببعض اللغات الأوروبية مثل الإنجليزية والألمانية والشرقية الأخرى مثل الفارسية، هكذا قال عنه العقاد. إن رجلا بمثل هذه المواصفات لهو مَجْمَعٌ بمفرده، وأمة واحدة، إن الواحد منا يحتاج إلى دهر لتعلم لغة واحدة، وهو بمفرده ألمَّ بعدد وفير ومتنوع من اللغات ويقول العقاد:"ولكن تنويع هذه اللغات أهم من كثرتها فى مباحث المقابلة بينها للأصول اللغوية؛ لأنها تتصل بالأمهات الكبرى المعروفة بعائلة اللغات الثلاث، وهى العائلة الهندية الجرمانية والعائلة الطورانية والعائلة السامية"، ويؤكد العقاد أنه كان يعرف الكثير من هذه اللغات معرفة دراسة ومعرفة تداول بينه وبين المتكلمين بها فى شئون المعيشة اليومية، وذكر مثلا على ذلك ببحثه فى كلمة "الطاقم"، ماذا تعنى بالتركية؟ ومعناها فى المصطلحات الفنية... فكان يفيض إفاضة تامة بتفسير الكلمات فى اللغات السامية.
ومن شدة حرصه على تحقيق بعض المصطلحات القديمة سافر إلى بلاد الحبشة، وذللك للوقوف على لهجات قبيلة الفلاشا وتاريخها القديم، هكذا يكون العلماء الأثبات، يتحرون الدقة فى أعمالهم، يسافرون إلى البلاد البعيدة للتحقيق فى بعض ما يخفى عليهم ويغمض.
لهذا لم يكن من العجب أن يكون من ضمن الرعيل الأول الذى أسس به مجمع اللغة، بل نقول إذا لم ينضم إليه فهذا هو العجب العجاب، ويذكر الدكتور محمد مهدى علام فى كتابه "المجمعيون فى ثلاثين عاما" أنه اشترك فى عدة لجان، ومنها: لجنة لبحث المصطلحات العسكرية. لجنة اللهجات ونشر النصوص القديمة. لجنة العلوم الاجتماعية والفلسفية. لجنة الأصول.
ويسرد العقاد بعضًا من مؤلفات حايم ناحوم أفندى العلمية، ومنها: تاريخ حياة الرئيس دواد بن إبراهيم بن موسى بن ميمون، وبحث عن القواعد الصحية فى مؤلفات موسى بن ميمون، وتاريخ يهود الإسكندرية فى عصر الفاطميين والأيوبيين، وتاريخ حارة اليهود وأخلاق سكانها ومحفوظاتهم، وجدول دينى بين اليهود المصريين واليهود المغاربة، وبحث بالفرنسية عن قبائل الفلاشا الحبشية.
رجل لديه المعرفة والدراية التامة بكل هذه اللغات كما ذكر العقاد، ومشغول بإنجاز عديد المؤلفات، ومهموم بأمر طائفته، هل يكون فى وسعه أن يكون خائنا لوطنه مصر؟! هل يمتلك الوقت الكافى ليتجسس على بلده؟ كما أنها مغامرة غير محسوبة لو كان عميلا، كيف وكل العيون مسلطة عليه وعلى تحركاته بل تعد أنفاسه وهمساته!