يعد الرئيس جمال عبدالناصر من أكثر الرؤساء قراءة وثقافة واطلاعًا، فكان شغوفًا بالقراءة، صبورًا فى الاطلاع والبحث، بحيث تعده قارئا ممتازا، لهذا لم يكن بدعا أن يحتل مكانة كبيرة فى قلوب الجماهير، وثمة كتابات تناولت ما كان يقرأه فى مرحلتى الثانوية العامة ومرحلة انضمامه إلى الكلية الحربية، فمثلا ثمة كتاب بعنوان "جمال عبدالناصر ورفاقه" للمؤلف السويسرى جورج فوشيه، واختار المترجمان ترجمته باسم "عبدالناصر فى طريق الثورة"، خصص المؤلف فصلا عن الحديث عن مطالعاته فى مرحلة الثانوية، ونجد أن عبدالناصر قرأ وعمره سبعة عشر عاما، ومن الكتب التى طالعها عبدالناصر كما يذكر المؤلف كتاب "المدافعون عن الإسلام" وهو كتاب نشره وقدم له الزعيم مصطفى كامل، وقرأ أيضا سيرة مصطفى كامل نفسه، وللكواكبى قرأ "طبائع الاستبداد" و"أم القرى"، ولأحمد أمين "زعماء الإصلاح فى العصر الحديث"، و"مشاهير الإسلام"، ومقالات الأمير شكيب أرسلان التى كان يكتبها فى مجلتى "اللواء" التى تصدر عن الحزب الوطنى، و"الأخبار" التى أدارها المناضل الوطنى الكبير "أمين الرافعى"، بالإضافة إلى ذلك التهامه لكل ما تنشره الصحف الوفدية.
الزعيم جمال عبد الناصر
كما قرأ عبدالناصر عن سير رجالات فرنسا المبرزين مثل "فولتير" و"روسو"، وكتب مقالا بعنوان "فولتير رجل الحرية" نُشِر فى مجلة مدرسته، وفى هذا المقال قال:" لقد كافح المفكر طويلا كي يبقى دائما مفكرا حرا من كل قيد"، وحاول أن يكتب رواية "فى سبيل الحرية" لكنه لم يكملها، وهذا ما أعلنه الأستاذ محمد حسنين هيكل ليوسف القعيد، كما قرأ رواية "البؤساء" لهوجو، وقرأ سير: "نابليون" و"الإسكندر الأكبر"، و"يوليوس قيصر"، و"غاندى". وقرأ كذلك رواية "قصة مدينتين" لشارلز ديكنز مرتين، واستفاد بها فى حكمه. واشترك عبدالناصر فى تمثيل مسرحية "يوليوس قيصر" وأدى دور "يوليوس قيصر" بقاعة مسرح "برنتانيا" سنة 1935. كما كان يحفظ قصيدة حافظ إبراهيم "العمرية". وكذلك تأثر برواية "عودة الروح" لتوفيق الحكيم تأثرا شديدا.
وفى مرحلة الكلية الحربية قرأ عبدالناصر الكثير والكثير من الكتب، فغرق فى مطالعة الكتب الإنجليزية التى تبحث في الموضوعات التى تهمه. وفى مقدمتها سير الرجال العظلاء أمثال بونابرت وبسمارك ومصطفى كامل وهندنبرج وتشرشل، ثم الكتب التى تتناول الشرق الأوسط والسودان والتاريخ العسكرى. وإذا لم يسعفه الوقت للقراءة بمكتبة الكلية أخذ الكتاب معه إلى بيته ليعيده فى الصباح.
أعد "فوشيه" قائمة بأسماء الكتب التى قرأها الرئيس جمال عبدالناصر باللغة الإنجليزية، وهذه القائمة موجودة أيضا برمتها فى عدد مجلة الهلال التذكارى الذى خصصته عن عبدالناصر بعد وفاته، أول نوفمبر 1970.
أنت تلاحظ تنوع الكتب التى قرأها عبدالناصر، فلم يتخصص فى قراءة فرع واحد فقط من فروع الثقافة، وإنما قرأ فى كل الفروع، فقرأ عن الدين الإسلامى، وقرأ السير الذاتية وأكثر منها، وقرأ الروايات والمسرحيات وحفظ الأشعار، وقرأ للكتاب المشهورين فى الثقافتين العالمية والمحلية، ومارس كتابة المقال وشارك فى التمثيل أيضا. وهو ما جعله يستفيد من هذه القراءة الواسعة ويطبقها فى مجال حكمه، فلم يكن يميل إلى استخدام العنف والدم، ولم يقم بإعدام الملك فاروق كما هو المتبع فى الثورات السابقة، وتركه يخرج فى سلام وأمان، وكان متأثرا فى ذلك بـ"قصة مدينتين"؛ حيث ستأتى الدماء بمزيد من الدماء. وبسط رعايته على الأديب الكبير توفيق الحكيم، وكان الحامى له، وتصدى لوزير التعليم آنذاك إسماعيل القبانى الذى دعا إلى فصله من دار الكتب، فما كان من الرئيس جمال عبدالناصر إلا أن قال: إن دار الكتب تشرف بتوفيق الحكيم، وشرف لأى مكان أن يكون فيه الحكيم. وكذلك دافع عن نجيب محفوظ بعد صدور روايته "ثرثرة فوق النيل".
لقد كان عبدالناصر طوال حياته حريصا على أن يقرأ ويقرأ ولا يمل من القراءة، كما ظل مؤمنا بالحرية التامة للكتاب والأدباء ليكتبوا ما يكتبون دون خوف من الاعتقال أو التنكيل بهم، وسأعرض بعضا من هذه النماذج.
جمال عبد الناصر
خالد محمد خالد
يحكى الأستاذ خالد محمد خالد أنه أصدر كتابه "الديمقراطية أبدا" فى فبراير 1953، وأن جمال عبدالناصر بوصفه وزيرا للداخلية آنذاك قد طُلبت منه مصادرة الكتاب، لكنه رفض المصادرة، وحماه من التنكيل به. وفى أول لقاء جماهيرى له راح جمال يستشهد ببعض الجمل الواردة بالكتاب مثل :"على الاستعمار أن يحمل عصاه ويرحل، أو فليقاتل حتى الموت دفاعا عن وجوده وصلفه ومصالحه".
يقول خالد محمد خال إن عبدالناصر كان حريصا على تتبع كل ما كتبه قبل الثورة، وإنه قد اشترى من جيبه الخاص مئات النسخ من كتابه "مواطنون لا رعايا" الذى صدر عام 1951، أى فى العهد الملكى، ووزع النسخ على الضباط الأحرار.
عندما أصدرت الثورة المصرية جريدة الجمهورية، اختاره عبدالناصر ليكون من ضمن كتابها، وكان مقاله "لكى تربح الثورة، لا خطوة إلى الوراء" افتتاحية العدد الأول.
وعند إعداد الثورة أول دستور لها، انتقده خالد محمد خالد فى مقال نشره فى جريدة الجمهورية بأمر من عبدالناصر، ولم تحذف منه عبارة واحدة، وكان السادات قد قرأه عليه تليفونيا، واقترح - السادات - حذف بعض العبارات لكن عبدالناصر أصر على نشر المقال دون حذف كلمة منه، وفى المقال انتقاد لفكرة الاتحاد القومى فقد عده "خالد" ممثلا للحزب الواحد.
حين سئل عبدالناصر لماذا تترك خالد محمد خالد يقول ما يشاء دون التعرض أجاب: إن "خالد" مخلص فى نقده، ثم إنه غير موتور. وكان عبدالناصر يقول للشيخ أحمد حسن الباقورى إنه يفضل أن يقرأ لخالد "المعارض" على أن يقرأ لخالد "المؤيد".
عدد الهلال عن جمال عبد الناصر
يوسف إدريس
وفى مقال للأستاذ رجاء النقاش بعنوان "أدباؤنا ومواقف لا تنسى لعبدالناصر" الذى كان ضمن العدد الخاص لمجلة الهلال الذى صدر عقيب وفاة عبدالناصر مباشرة، نوفمبر 1970، ذكر النقاش بعضا من تلك المواقف التى تحسب لعبدالناصر، وكان فيها نصيرا للأدباء؛ بحيث تعد مواقف لا يمكن أن تنسى، ومنها موقفه مع الأديب يوسف إدريس الذى منح جائزة منظمة "حرية الثقافة العالمية"، وهى منظمة خاضعة للتوجه الأمريكى، وتهدف إلى تشويه الثقافات الوطنية فى المجتمعات النامية، وتصدر المنظمة مجلة "حوار" فى بيروت، وأنشأت جائزة عربية سنوية، واختارت فى السنة الأولى يوسف إدريس، ورفض إدريس الجائزة التى قيمتها ألفا جنيه مصرى، وهو مبلغ كبير آنذاك، وعرف الرئيس عبدالناصر قصة الجائزة المشبوهة، فقرر على الفور صرف قيمة الجائزة ليوسف إدريس، ومنحه وسام الآداب والفنون.
نزار قبانى
نأتى إلى الموقف الأشهر الخاص بنزار قبانى، ذلك أن الشاعر السورى الكبير أنشأ قصيدة بعد نكسة 1967، فقامت الدنيا على نزار وهاجت، ونظرا لما أحدثته القصيدة من هزة عنيفة فى الشاعر العربى، طالبت بعض الأقلام بعدم دخول نزار مصر، وبمنع أغانيه من الإذاعة، واقترح رجاء النقاش الذى كان موجودا فى بيروت على نزار قبانى بإرسال القصيدة مع كتابة رسالة تشرح له وجهة نظره، وقرأ الرئيس عبدالناصر القصيدة، كما قرأ رسالة نزار، وهنا كتب عبدالناصر بخط يده على رسالة نزار بالسماح للقصيدة بدخول مصر وعدم اتخاذ أى إجراء ضده، وسمح لنزار بدخول مصر، رغم أن القصيدة قاسية ومعتمة، وفيها هجوم على عبدالناصر، انظر مثلا إلى هذا المقطع:
"إذا خسرنا الحرب لا غرابَهْ
لأننا ندخلها..
بكل ما يملك الشرقي من مواهب الخطابَهْ
بالعنتريات التي ما قتلت ذبابَهْ
لأننا ندخلها..
بمنطق الطبلة والربابَهْ"
يقول رجاء النقاش إن الرسالة: "نص أدبى بديع وهى فى الوقت نفسه وثيقة تاريخية تثبت ما كان جمال عبدالناصر يتسم به كقائد وزعيم من نظرة رحبة واعية عميقة إلى دور الأدباء والفنانين والمفكرين فى بناء المجتمع العربى، وحرصه الكبير على أن ينطلق الفنان فى التعبير عن مشاعره الصادقة بلا خوف ولا التواء". ومن هذه الرسالة نقتطف هذه الفقرة:"قصيدتى أمامك يا سيادة الرئيس أرجو أن تقرأها بكل ما عرفناه عنك من سعة أفق وبعد رؤية، ولسوف تقتنع، برغم ملوحة الكلمات ومرارتها، بأننى كنت أنقل عن الواقع بأمانة وصدق، وأرسم صورة طبق لوجوهنا الشاحبة والمرهقة.."
بدورى أقول إن سماح عبدالناصر لقصيدة نزار بدخول مصر، وقراءة رسالته والرد عليه، ومنع أى إجراء ضده، لهو دليل على إيمان عبدالناصر الشديد بحرية الشاعر فى التنفيس عن مشاعره وإطلاق العنان لكلماته المعبرة عن الموقف الكئيب الذى وقعت فيه الأمة بهزيمتها فى 1967.
المثقفون وثورة يوليو
رسالة زويل وشكوى عصفور
وبمناسبة رد عبدالناصر على رسالة نزار قبانى، فهذا كان من ديدنه وعادته، فكثيرا ما كان يرد على الرسائل التى ترد إليه، فأذكر مثلا رده على رسالة أحمد زويل عندما كان فى العاشرة من عمره، وأرسل إليه رسالة يعبر عن مدى حبه وعشقه وتقديره له ودعا له ولمصر بالتوفيق، فقال:"ربنا يوفقك ويوفق مصر"، فيرد عليه الرئيس عبدالناصر قائلا:"ولدى العزيز أحمد، تحية أبوية وبعد، تلقيت رسالتك الرقيقة المعبرة عن شعورك النبيل فكان لها أجمل الأثر فى نفسى، وأدعو الله أن يحفظكم لتكونوا عدة الوطن فى مستقبله الزاهر، أوصيكم بالمثابرة على تحصيل العلم مسلحين بالأخلاق الكريمة؛ لتساهموا فى بناء مصر الخالدة فى ظل الحرية والمجد، والله أكبر والعزة لمصر". وفعلا امتثل زويل بوصية عبدالناصر، فأحب العلم ونبغ فيه، وربما لرد عبدالناصر أثر كبير فى حياة زويل، فأراد أن يثبت له – إن طال به الأمد – أنه سيكون عالما يخدم مصر. وعشرات الرسائل بل مئات الرسائل التى ترد على الرئيس عبدالناصر من داخل مصر وخارجها ويرد عليها بنفسه.
ولا ننسى شكوى الدكتور جابر عصفوره بعد أن تخطته الجامعة فى التعيين وكان الأول فى الترتيب، فأرسل شكوى إلى عبدالناصر، فاستجاب له على الفور، وحصل جابر على حقه بالتعيين، ومن ثم انطلق إلى آفاق أعلى فى الأدب والنقد، وأصبح أهم ناقد عربى ووارث طه حسين. وظل جابر يحفظ هذا الجميل لعبدالناصرويردده طوال حياته.
نجيب محفوظ
قلت إن جمال عبدالناصر قارئ متميز وحريص على متابعة كل ما تنتجه المطابع، وأحيانا يشترى نسخا عدة من الكتاب الواحد، حدث هذا مع كتاب "مواطنون لا رعايا" لخالد محمد خالد، وحدث أيضا مع الأديب الكبير نجيب محفوظ، وذكر الأديب يوسف القعيد فى لقاء تلفزيونى أن خالد جمال عبدالناصر قال إن والده كان يشترى كل رواية جديدة تصدر عن نجيب محفوظ بعدد أفراد الأسرة ليتم مناقشتهم والحديث عنها معا.
بعد نكسة 1967 عقد وزير الثقافة ثروت عكاشة مؤتمرا عاما يضم قيادات الوزارة، وحضره نجيب محفوظ مدير مؤسسة السينما، وفى هذا المؤتمر تحدث محفوظ بكل صراحة عن الحلول للخروج من أزمة النكسة، وقال: إن الخروج من هذه الأزمة هو العودة للديمقراطية وإطلاق حرية تعدد الأحزاب والآراء.. قال محفوظ هذا الرأى فى نهاية 1967 وبداية 1968، ولم يتعرض لأى مضايقات ولم تتخذ ضده أى إجراءات. (راجع "نجيب محفوظ – صفحات من مذكراته"، رجاء النقاش).
ذكرت هذا الموقف لأؤكد أن نجيب محفوظ كان حرًّا طليقا فى آرائه السياسية طوال مدة عبدالناصر، كما كان حرا طليقا فى الكتابة، يكتب ما يشاء دون خوف أو قلق، مثل "أولاد حارتنا" التى نشرت مسلسلة فى صحيفة "الأهرام"، بل إن أعماله التى أهلته للحصول على جائزة نوبل كانت خلال سنوات حكم الرئيس عبدالناصر، فالثلاثية منشورة فى الخمسينيات، وأولاد حارتنا كتبت ونشرت كما قلت فى الخمسينيات، وميرامار وثرثرة فوق النيل واللص والكلاب والشحاذ والمرايا والسمان والخريف ودنيا الله وتحت المظلة، هذه الأعمال الأدبية الرفيعة المستوى وغيرها منشورة خلال مدة حكم عبدالناصر.
وأزمة رواية أولاد حارتنا لم تكن مع جمال عبدالناصر، وإنما كانت مع الأزهر الشريف؛ حيث جاء قرار الأزهر بمنع طبعها فى كتاب، وعبدالناصر قد قرأ بعض الحلقات كما يذكر هيكل. وبالفعل طبَّق قرار الأزهر، ولم تطبع الرواية داخل مصر فى كتاب، ويحكى نجيب محفوظ لرجاء النقاش أنه قد قابله الدكتور حسن صبرى الخولى ممثل عبدالناصر الشخصى وقال له: إنه لا يستطيع أن يسمح بنشر الرواية فى كتاب داخل مصر؛ لأنها لو نشرت فى كتاب فستحدث مشكلة كبيرة مع الأزهر، ولكن من الممكن نشر الرواية خارج مصر. وفى هذا احترام من عبدالناصر لقرارات الأزهر، وأنه لا يستطيع وهو رئيس الجمهورية الاعتراض على هذه القرارات، وفى ذلك أيضا احترام لنجيب محفوظ، فأرسل إليه الممثل الشخصى له، وقدم حلا لروايته. على أن هيكل فى حواراته مع يوسف القعيد ذكر أن من اتصل بنجيب محفوظ هو الدكتور سيد أبو النجا من أجل نشر الرواية فى بيروت.
نشر نجيب محفوظ أيضا قصة "الخوف" ضمن مجموعته القصصية "بيت سيئ السمعة" التى صدرت عام 1965، نشرها مسلسلة بصحيفة الأهرام، وقرأها الناس وفهموا المغزى الحقيقى من القصة، فهى تتحدث عن مجتمع يحكمه الفتوات، ويأتى إليهم ضابط ويتغلب عليهم، ويجلس على المقهى مع الفتوات بعد أن يغير ملابسه، ويخطف منهم الفتاة التى يتصارعون عليها. وكان نجيب يقصد بالطبع بالضابط عبدالناصر، وما رجح ذلك أن الضابط اسمه فى الرواية "عثمان جلالى"، وإذا أخذنا الحرفين الأولين من الاسم فيسصبح جمال عبدالناصر، ولم يفعل عبدالناصر لنجيب شيئا، وتركه يكتب فى أمان واطمئنان. راجع (نجيب محفوظ – رجاء النقاش).
لا ننسى رواية "ثرثرة فوق النيل" التى أثارت الزوابع عليه، وهاجت شلة المشير عبدالحكيم عامر وثارت، وقررت إيقاف نجيب محفوظ عند حده، ويحكى نجيب لرجاء النقاش عن المشير عامر أنه قد بلغه: "أنه هدد وتوعد بإنزال العقاب بى، بسبب النقد العنيف الذى تضمنته الرواية لسلبيات قائمة فى المجتمع، وسمعه البعض وهو يقول: نجيب زودها قوى ويجب تأديبه ووقفه عند حده".
أوضح نجيب أنه كان يرمى من وراء "ثرثرة فوق النيل" التنبيه إلى كارثة بدأت تظهر على السطح وهى:"محنة الضياع وعدم الإحساس بالانتماء التى يعانى منها الناس، خاصة فى أوساط المثقفين الذين انعزلوا عن المجتمع، وأصبحوا فى شبه غيبوبة..".
ذكر الأستاذ سامى شرف لرجاء النقاش رأى عبدالناصر فى رواية "ثرثرة فوق النيل" وفى نجيب محفوظ نفسه، فقال:"احنا عندنا كام نجيب محفوظ؟ إنه فريد فى مكانته وقيمته وموهبته، ومن واجبنا أن نحرص عليه كما نحرص على أى تراث قومى وطنى يخص مصر والمصريين". وأكد أن نجيب محفوظ لم يثبت عليه أبدا سوء نية تجاه الثورة.
وقال عبد الناصر أيضا إن الرواية فيها نقد، وإن النقد الذى تنطوى عليه صحيح، وإن علينا أن نعترف بوجود السلبيات التى تشير إليها ونعمل على الخلاص منها، بدلًا من أن نضع رأسنا فى الرمال وننكر حقيقة ما تُنبهنا إليه الرواية وكأنه غير موجود، رغم أنه موجود ونحن نعترف بيننا وبين أنفسنا بذلك.
وكذلك الأمر فى رواية "الشحاذ" فهى تعبير عن حالة الضياع والإحباط التى يعيشها المثقفون. وفى رواية "ميرامار" تناول بصراحة لمشكلة الاتحاد الاشتراكى وصراع الطبقات فى المجتمع..
مذكرات نجيب محفوظ
فى النهاية
إن جمال عبدالناصر كان رحب الصدر تجاه ما يكتب ضده، لم يكن ليضيق قط بإبداع الأدباء والمفكرين، وكان يترك لهم الحرية فى مجال إبداعهم، وهذا نجيب محفوظ أخرج روائعه الأدبية فى عصره، وكذلك توفيق الحكيم، ويوسف إدريس، وغيرهم من المثقفين. فكيف يكون عصر تظهر فيه هذه الروائع ويوصم بالديكتاتورية؟ إن المرء ليعجب من هذا الوصف القبيح لعصر كان المسرح يعيش أزهى فترات حياته، وكذلك السينما، والثقافة بصفة عامة. وهنا أستعين بكتاب "عبدالناصر والمثقفون والثقافة" وهو عبارة عن حوارات أجراها الأديب "يوسف القعيد" مع الأستاذ "محمد حسنين هيكل"، فقال هيكل مستنكرا وصف هذا العصر بالديكتاتورية:
"لِمَ فى العصر الذى يقولون عنه إنه عصر الديكتاتورية نشرت أعمال أدبية لكل هؤلاء الناس، النفس الأخير لنجيب محفوظ، النفس الأخير لحسين فوزى، النفس الأخير ليوسف إدريس، النفس الأخير لتوفيق الحكيم، كل هذه الأنفاس الأخيرة عرفت طريقها إلى الناس فى زمن جمال عبدالناصر، وفى الأهرام بالذات وهى الجريدة الأقرب إليه".
وهذا ما أكده الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين، الذى رأى أن عبدالناصر لم تكن له مشكلة إزاء إبداء الرأى، وقال فى إجابته عن سؤال وجهه له الدكتور مصطفى عبدالغنى بشأن عدم القبض عليه بعد أحداث 1968:"لم أكن عضوا فى تنظيم، ولكن لى رأى فقط، كان يقبض على من ينتمى إلى أى تنظيم أو خلية. وأعتقد أن الثورة وعبدالناصر لم تكن لديه مشكلة إزاء إبداء الرأى. وأستطيع أن أشهد بأنه لم يكن يتم القبض على صحفى بسبب رأيه بل كان يتم القبض على الخلية التنظيمية مثلا"، راجع "المثقفون وثورة يوليو" للدكتور مصطفى عبدالغنى.
حسين السيد