في زمن تتقاطع فيه الأسئلة حول معنى الفن ودوره، جاء مهرجان "جيلنا"، يُقام برعاية المركز الكاثوليكي المصري للسينما، في دورته الثانية واختار شعاره "الفن من أجل الحياة"، بدا كأنه يسعى لأن يقدّم إجابة تُلخص الفن بوصفه: حياة، ذاكرة، جسر بين الأجيال. فالمهرجان الذي أهدى هذه الدورة لاسم الفنان لطفي لبيب، في تكريم يعبر عن قيمته الفنية والإنسانية، ورسم بهذه اللفتة الرقيقة مساحة وفاء وإبداع في آنٍ واحد، استهدف دعم الشباب في مجالي الأفلام القصيرة والتصوير الفوتوغرافي. هذا التلاقي بين الأجيال الذي برز في تكريم الكبار: عايدة رياض، أحمد كمال، هنا شيحة، محمد عبد الرحمن توتا، ومحمد هشام شيكو، والمصورين الصحفيين: حسام دياب، عمرو نبيل. إذًا فإن المهرجان كرّم الكبار دون أن يتنازل عن احتضان الشباب، ويمنح مساحة لأسماء صاعدة لكي تعبّر عن نفسها بحرية وتجريب.
بين الصورة واللقطة والدراما تنوعت الأعمال المتنافسة في مسابقتي المهرجان: مسابقة التصوير الفوتوغرافي التي استقبلت نحو 46 مصورًا من داخل مصر وخارجها، قُدّمت أعمالهم ضمن معرض فني كشف عن وعي بصري جديد لدى الجيل الشاب. ومسابقة الأفلام القصيرة التي تقدم لها 94 فيلمًا من مصر وبعض الدول عربية، اختير منها 25 فيلمًا، ما بين الوثائقي والروائي القصير والرسوم المتحركة. هذا غير "الجوكر" فيلم الافتتاح للمخرج نور الدين عمرو أحمد، وهو بورتريه عن الفنان لطفي لبيب يتضمن هذا المزيج من اللقطات الأرشيفية والمقابلات ومقاطع من أعماله. سرد مُحمّل بكمّ من المشاعر والحميميات يستعرض مسار الفنان وتحولاته، من بداياته في المسرح الجامعي إلى أدواره المميزة في السينما والتلفزيون، مشوار شديد الخصوصية يعكس حضورًا لفنان متعدد الوجوه حتى أصبح "الجوكر" والورقة الرابحة في أي مساحة درامية، لعل هذا ما حاول الفيلم أن يقدمه في إيقاع هاديء، متأمل ومؤثر.
على الرغم من تفاوتها السينمائي، فإن الأفلام التي شاركت في مسابقة المهرجان، عبرت عن جيل يخطو خطواته الأولى، قد تكون خطوات مرتجفة للبعض، لكنها بشكل عام فإنها ضرورية في إطار صناعة الصورة وتطورها الفني والتقني، بينما كانت هناك خطوات أخرى واثقة بما احتوته من مادة غنيّة بمعطيات بصرية ولحظات إنسانية، كافية لتأمل لحظة زمنية وفهمها في الوقت الراهن، مثلما فعل مثلًا فيلم "قاهرة" إخراج أحمد علاء إسماعيل (الفائز بالمركز الأول)، فهو من الأفلام التي تؤكد أن الفيلم الوثائقي لم يعد تقليديًا، بل هو خليط إبداعي من أنواع سينمائية مختلفة، أداة فاعلة ومؤثّرة في زمن الصورة، وربما حاجة ماسّة إلى مواجهة الواقع والتحدّيات وإلى كشف الحقائق والتحوّلات. بداية من الدلالة التي يحملها عنوان الفيلم: "قاهرة" بدون ألف ولام، هذا التلاعب بالحروف يوحي بالقهر في مدينة هي أصلًا إزدواجية، تلاعب لُغوي/ رمزي، يُكثف المعنى ويشير إلى قهر ما في المدينة، ثم يُفسره من خلال التعليق الصوتي الذي يخبرنا بمنع التصوير في هذه المدينة وما يمكن أن نفقده بسبب هذا القيد. سرد مديني أو تصوير للهوية والواقع في العاصمة، نتلمسه في ست دقائق تقريبًا تستعرض بإيقاع سريع تجربة المخرج الشغوف بالتصوير، هذا الشغف المصاحب له من طفولته بعد ما أهدى له والده أول كاميرا، حسب الإهداء الذي قدمه المخرج لوالده في تيتر الفيلم. التجربة ذاتية، لكنها كاشفة لمدينة غير عادية، سعى المخرج للتعبير عنها دراميًا بلقطات من الواقع بدون تصنّع، بل بتوثيق هذه العلاقة المعقدة ببينها وبين ناسها، بما يدل على أن القاهرة ليست مجرد مسرح أحداث، بل هي شخصية فاعلة في حد ذاتها، تؤثر في الشخوص وتشكّل وعيهم.
" قصة مريم" (المركز الثاني) إخراج مارولا مجدي، قدم نمطًا بصريًا مختلفًا لقصة غير مألوفة عن هذه الشابة المسيحية في منتصف العشرينيات، تخوض تجربة الرقص الصوفي حيث وجدت فيه اللغة التي تعبر عن مكنونها الداخلي. فكرة جريئة مفعمة بالتحدي، تقتحم بها الفتاة المجتمع والأعراف وكل الصراعات الداخلية والخارجية، ربما يستكشف الفيلم في أربع دقائق مكثفة هواجس الهوية أو الموروث الاجتماعي أو الأزمات الشخصية من خلال مونولوج داخلي يُضفي بُعدًا إضافيًا على الحكاية.
بينما فيلم "مسافات" (المركز الثالث) إخراج ليزا كمال عطية، فقدم حالة مختلفة دراميًا وجماليًا. المسافات قد ترمز للفجوات بين الناس، بين الحلم والواقع، بين الماضي والحاضر، أو بين القرب والبعد في العلاقات الإنسانية. للتعامل مع مفهوم المسافات، قامت المخرجة في زمن يتجاوز العشر دقائق بثوان قليلة، ببناء المشاهد ببطء يعكس مسافات نفسية بين هذا الأب الخمسيني وابنه، حاول الأب أن يكسر حاجز الصمت، متجاوزًا حالة الترقب والانتظار، ثمة تأثير عاطفي يمكن أن يتلمسه المُشاهد.
برزت الأفلام الثلاثة في مواضيعها الإنسانية وأشكالها الفنية المتباينة، إضافة إلى أفلام أخرى لا يتسع السياق لذكرها. فعلى الرغم من أن بعضها يحتاج إلى مزيد من البلورة الإبداعية والصوغ الفني للمادة المختارة، إلاّ أنها شكّلت نافذة للإطلالة على صنيع بصري يُعاين الواقع الإنساني بأساليب مختلفة، كما فعل هذا الفيلم التونسي الفائز بدرع التميّز"فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ" إخراج: حسام سلولي (عرضه العالمي الأول كان في مهرجان البحر الأحمر السينمائي في ديسمبر 2024، ثم شارك في مهرجانات دولية عدة و حصل على جائزة أفضل فيلم قصير روائي في مسابقة تمكين الشباب بقطر في فبراير 2025) .. كاميرا تتجوّل في الأمكنة والروح، وصُوَر تتالى عن الحاضر الآيل إلى أفول ما، وكلام قليل يروي الحكاية تاركًا للصمت قوة حضور في تعبيره.. الفيلم يدور حول غسان، شاب تونسي يحاول الحصول على تأشيرة للإقامة في فرنسا، هذا المسعى البسيط يتحول إلى تجربة معقدة مليئة بالعقبات الإدارية والبيروقراطيات التي تُجسَّد مثل غوص تحت الماء، أي كل عقبة تُشعِر بأنه يغوص أعمق في التعقيدات والظلمات.
الفيلم لا يكتفي أن يروي معاناة فرد، بل يعرض قضايا اجتماعية وسياسية أوسع: الحق في التنقل، الحلم بالفرص، التفاوت بين من لا يواجه عقبات كبيرة وبين من تُثقل القيود كاهله."ثلاث ظلمات"، العنوان ذاته رمزي. يمكن تأويل "ثلاث" كمراحل، كمستويات من العقبة: قد تكون الأولى بُعد الشخصية والمادية، الثانية إدارية، الثالثة نفسية ووجودية.
حسنًا.. إن المهرجان يقدم نفسه كجسر بين الأجيال ببصيرة ووعي بدور الفن والثقافة كركيزة رئيسية للتغيير وإحداث اختلاف في الحياة. هذه مبادرة تُتيح لهذا كلّه حيّزاً للاكتشاف والنضج، أتمنى أن تتطور أكثر في الدورات والسنوات القادمة، وتحافظ على بريقها وسط ازدحام المهرجانات، وتكون دعمًا دائم للشباب، متجاوزة أي تحديات قد تتعلق بالتمويل والاستمرارية والتوسع الجماهيري.