ناهد صلاح

أنا هويت ما انتهيت

الجمعة، 26 يناير 2024 01:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
هل نقول عن احتفالية مئوية الموسيقار سيد درويش التي أقامها مركز أبو ظبي للغة العربية في القاهرة بالأمس على هامش معرض القاهرة الدولي للكتاب، أنها طُبعت بالمكان الذي أنجزت فيه وهو قصر عابدين بمناخه الخاص وحضوره الأثير؟.. سؤالي ليس بسبب استدعاء تراث فني عريق لم يلبث أن حوّله الفنانون الذين قدموه إلى اشتعالات روحية وعاطفية، وإنما باعتبار الحفل لحظة لقاء بين ماضٍ يمتلك حضورًا إبداعيًا آسرًا، وحاضر يستسيغ هذه العودة إلى زمن جميل، ربما تحررنا هذه العودة قليلًا من قلق الآنيّ و"تطبطب" على قلوبنا الكسيرة بالوجع الفلسطيني والعجز حياله. 
 
استطاع الحفل أن يرسم بأصوات فاتنة شيئًا من الحكايات القديمة، فإذا بالأغنيات والألحان المستلّة من أعمال سيد درويش، تعوّض بعض الحنين إلى عالم أهدأ وتقودنا إلى صنّاع حالة إبداعية في العزف والأداء، شكّلت متنفسًا ما من تلوّث زمن الهزائم الكثيرة التي تحاصرنا، بهذا المعنى استمعنا إلى نبض تاريخ يعاند ويأبى أن ينتهي، طالما هناك من يحافظ على براعته ويعتني به ويصونه بوصفه فصل من تاريخنا المشرق، لذا بدت هذه الأمسية الغنائية كما لو كانت تأكيدًا على استحالة موت الإبداع في زمن الموت الكثيف الذي نعيشه.
 
ولأن "الجواب يبان من عنوانه"، ظهر جليًا منذ استخدام "أنا هويت ما انتهيت" واللعب على عنوان الأغنية الشهيرة لدرويش، للبرهان على أن قصة الهوى والغرام التي انتهت وارتضى المغني بهجر الحبيب ورمى على الدنيا السلام، لم تنته هنا في حفل يرسخ أننا نهوى التجربة ولم نخلص منها، إنها لازالت باقية ويصعب أن نرتضي بهجرها ونسيانها، فالبعـد عنها "يا ناس حرام"، وهو ما أقره سكريبت الحفل المكتوب بعناية وقدمته عائشة المزروعي مديرة إدارة الفعاليات ومعارض الكتاب بمركز أبوظبي للغة العربية، والإعلامية المصرية رشا عزات، تمكنت الاثنتان بانسجام واضح أن تمثلا عنوانًا آخر لافت للأمسية من خلال حضورهما الواثق، بما يليق بالفكرة وبالالتقاء المصري الإماراتي في نقطة مشتركة تبرز حضور الثقافة المصرية وتأثيرها الممتد، وهو ما عبر عنه الدكتور علي بن تميم رئيس مركز أبو ظبي للغة العربية حين أعلن في كلمته أن مصر هي ضيف شرف مهرجان أبو ظبي للكتاب في دورته المقبلة بشهر أبريل، واختيار نجيب محفوظ ليكون الشخصية المحورية هذا العام.
 
غنت الإماراتية فاطمة الهاشمي بصوتها الحلو والمدرب مجموعة من الأغنيات: طلعت يا محلا نورها، يا بهجة الروح، الحلوة دي، يا عزيز عيني.. كما غنت التونسية المقيمة في باريس عبير نصراوي بحضورها اللافت وصوتها القوي، المحترف: حرج علي بابا، وياللي تحب الورد، ويا عشاق النبي و.. غيرها، بينما حضرت فرقة مسار إجباري ذلك الحضور المدهش والمتفاعل مع الجمهور، إذ غنت مجموعة أخرى منها: أهو ده اللي صار، خفيف الروح، أنا هويت. في حين أطل محمد محسن كواحد من حُراس الفن إبداعًا وفكرًا، وغنى: أنا هويت، سالمة يا سلامة، والله تستاهل يا قلبي، شد الحزام، أهو ده اللي صار، قوم يا مصري، ما قولتلكش إن الكترة.. هذا غير ما تغنى به كورال أوركسترا المايسترو شادي عبد السلام: يا شادي الألحان، ميدلي شهر زاد )هيا بنا، أشجع جيوش العالم(، بخلاف تشارك الجميع في نهاية الحفل بـ زوروني كل سنة مرة، نشيد بلادي بلادي.
 
لعب الجميع موسيقيون ومغنيون أعمال سيد درويش بجدارة، كانوا متمهلين في لعبهم، غير مستعجلين إلى إشباع رغبة الجمهور في استعادات من زمن قديم، سمعنا موسيقى تتسلل إلى الروح، وعرفنا أن للموسيقى مجدها، حيوية الجميع على إيقاعات متعددة ضبطت اللعبة الأدائية على المسرح، حيث تصدرته آلات الفرقة الموسيقية كأنها تخاطب في الحضور إرادة الحياة والعطاء، لتنتصر الموسيقى والكلمة في تلازم وتلاحم دافئين.
 
حفل طموح حقق في بساطة وعذوبة نوعًا من المصالحة بين الوجدان الشعبي العام، وبين الموسيقى، مع فنانين "متشربين" بشكل جيد من مخزون سيد درويش الموسيقي، ومدركين الثورة الموسيقية التي أحدثها وأيضًا المكابدة العاطفية والاجتماعية التي عاشها الشيخ سيد، وكذا  فاهمين مدى إيغاله في مسرات الحياة وهمومها حتى أقصاها، وإنخراطه في العشق وفي حب مصر.. الفتى الإسكندراني الذي صار أعظم موسيقيي مصر وعبر عن عن مختلف فئات الشعب المصري.. الموسيقي الذي ترك قبل رحيله المبكر في الحادية والثلاثين من عمره، إرثًا فنيًا حافلًا من الألحان والأغنيات والأدوار الطربية الدسمة مثل:" الحبيب للهجر مايل"، "في شرع مين يا منصفين"، "ضيّعت مستقبل حياتي" و.. " أنا هويت وانتهيت"  واحدة من أبرز أعماله مقدمًا فيها تعبيراته الدرامية الأكثر حداثة في الغناء العربي، أتصور أنها كانت العنوان الأكثر ملائمة للاحتفال بمئويته وبتصرف طبعًا يناسب خلود تجربته واستقرارها في الوجدان.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة