أيُّ عالم مدهش يقدمه عبد الرحيم كمال في "جزيرة غمام"؟.. الدهشة هنا معقودة على التضادات التي جمعها في نصه المفعم بالكثير من الدلالات والخطوط الدرامية المتوازية، كأن الجزيرة تنتظر نيرانًا تلتهمها أو طوفانًا أسطوريًا يطهرها، إنها الزوبعة التي حذر منها الشيخ مدين (عبد العزيز مخيون) قبل رحيله.
الجزيرة بين اسمها الغريب والصريح في ذات الوقت، وبين حيزها الجغرافي المجهول لكثيرين، تبدو حينًا مؤنسة وأحيانًا وحشية النزعة، غامضة، يصعب اكتشاف ما يخفيه الغمام، إذ يقدم لنا المؤلف نقائضًا درامية اختارها بعناية في توليفة لا يُستهان بصنعتها، نلمسها بسهولة من البداية في صوت علي الحجار الشجي:" البحر ده كان جبل نزل عليه الحب/ والصخر لان وانحني من عطفه على المجاريح / يا ناس قلبكوا حجر ولا انتوا من غير قلب".
كلمات صاغها الشاعر إبراهيم عبد الفتاح، بما ينبهنا أننا ندخل إلى عالم حدوتة عويصة وليست سهلة، وبما يذكرنا أيضًا بشاعر الربابة ومطربي السيرة القدامى، فنحن على وشك سيرة كبيرة، وكلماته هي مفتاح الولوج إلى عالم يزخر بالتفاصيل والإشارات والحكمة، وبهذا المفهوم قدم شادي مؤنس ألحانه، واعيًا لزخم الدراما التي تتغلغل في ثلاث عوالم متباينة، سواء على مستوى الجغرافيا أو الخيال: الصعيدي، الغجري، الصوفي، معتمدًا على آلات موسيقية مثل الأورغول والدفوف، تعكس الحالات الدرامية وتنويعاتها، وتصل إلى النقطة التي أرادها المسلسل.
النقطة التي يشتغل منها عبد الرحيم كمال وينتهج مشروعه الفني، كلعبة مخاتلة درامية، عمادها الخيال الذي يتماهى مع الواقع، ويترك المتفرج لأسئلته عن الرابط الذي يجمعهما، إنها اللعبة التي فطن إليها دون شك المخرج حسين المنباوي، ونقلها مع فريقه الفني بصياغة بصرية قدمها مدير التصوير اسلام عبد السميع، وإلتقطت روح الحكاية.
الحكاية تبدأ من جزيرة صغيرة، ثم تتسع تفاصيلها رويدًا رويدًا لتصل إلى قضايا أكبر، تشمل البلد كله، فالصراع لا يخص ناس الجزيرة وحدهم، بل يجتاح الجميع ويأخذنا إلى الواقع الحقيقي الذي نعيشه حاليًا، والذي استعاده المسلسل منذ زمن أبعد، نحو مائة عام ومكان قَصِيّ على ساحل البحر الأحمر.
الشيخ مدين يربي ثلاثة رجال، كل منهم في مكانة الابن، وكذلك كل واحد فيهم يحمل اسمًا هو برهان على شخصيته، وعلى اتجاهه ودوره في الحياة: محارب (فتحي عبد الوهاب) نموذج رجل الدين المتسلط، صاحب الشرعية الجهادية، ويسري (محمد جمعة) وارث المنزل، الميسر، والأقرب إلى، وعرفات (أحمد أمين) الزاهد، العارف بالأمر الخفي، الذي أوصاه شيخه بتحذير الناس من الخطر القادم، أما خلدون (طارق لطفي) المشتق من الخلود، طرح البحر الغامض والمحرض على المعاصي، ومعه "الغجرية" العايقة (مي عز الدين) وما تعنيه من الجمال والدلال والغواية.
في المقابل يوجد عجمي "رياض الخولي" كبير الجزيرة وصاحب السطة فيها، رجل قوي، شديد البأس، عليه أن يواجه المتغيرات العاتية في الجزيرة والتي بدأت بجرائم صغيرة، لا تهدد سلطته فقط، بل تهدد الجزيرة كلها، خصوصًا في ظل أطماع البعض الشخصية التي تساعد على ذلك، كما في حالة تاجر الجزيرة جودة البطلان ( محمود البزاوى).
الممثلون أدركوا هذا التناغم في الحكاية، وشرعوا في تجسيد الشخصيات بنهج واعي أولًا، ثم وفق خبراتهم المتراكمة التي جعلت من رياض الخولي، يبدو كمن استحوذ على الشاشة، كصاحب سلطة قوي ومختال، ومثل راع مسئول وزوج عطوف وأب حنون، وفتحي عبد الوهاب كرجل يعرف يستخدم الدين بلؤم ودهاء لتحقيق أغراضه، وأحمد أمين بأسلوب جديد يصنع له نقلة نوعية، مثل هذه النقلة التي تحدث لزميلته مي عز الدين.
أما طارق لطفي، فإنه لعب في مساحة متفردة، لا تشي فقط بحصافته وتنبهه لطبيعة الدور، إنما في الحقيقة ترسخ لحضوره كممثل يتعب على حاله، وتنضج أدواته من عمل لأخر، حتى أن طريقته ذكرتني بممثلين كبار، سبق أن قدموا تنويعات من الشيطان، والغاوي، بدا لي أن طارق لطفي ليس فقط نتاج تجربته الفردية، وإنما التجربة العامة، وهذا أمر بديهي في إطار اكتساب الخبرات.
الشيطان في الدراما عامة، يكون حضوره رمزيًا، يوسوس ويدعو إلي المعصية، من يتذكر "سفير جهنم" (1945) قصة وسيناريو وتمثيل وإخراج يوسف وهبي، أو عادل أدهم في" المرأة التي غلبت الشيطان" (1973) قصة توفيق الحكيم وسيناريو وإخراج يحيي العلمي، أو "أصدقاء الشيطان" (1988) قصة نجيب محفوظ وسيناريو وحوار إبراهيم الموجي، حيث الفتوة الذي يبيع روحه للشيطان بعقد يكاد يشبه عقد رواية "صورة دوربان جراي"، أو بيع الروح للشيطان في فيلم أخر هو "إختفاء جعفر المصري"(2000) إخراج عادل الأعصر، بما يشبه عقد فاوست مع الشيطان في مسرحية جوته الشهيرة، أو ما قدمه عبد الرحيم كمال نفسه مع يحيي الفخراني في مسلسل "ونوس" (2016) إخراج شادي الفخراني.
حسنًا!! إننا هنا في هذا المسلسل الذي يصوغ العلاقة بين الروح والمكان والفضاء الإنساني الأعم، أمام صراعات بشرية ملونة بطبائع واتجاهات مختلفة، وموزعة بين الإنساني والفلسفي والصوفية. صراعات تنشب باسم الدين وفي خلفيتها جموح يتطلع صوب السلطة في الجزيرة، والجزيرة تجسد البلد كله في دراما محكمة الصنع، تفرض علينا جميعًا أسئلة المصير والمستقبل، إنها ذاتها الأسئلة التي لم يستطع أحد فينا، أن يفلت من مطارتها في السنوات الأخيرة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة