رحلت عايدة عبد العزيز، أحد أبرز الممثلين الذين فرضوا لأنفسهم مكانة مهمة في المشهد الفني المصري والعربي، وضعت، بملامح وجهها وقوة إطلالتها ونبرتها الأدائية الطالعة من عمق الذات وصلابة الحضور، كي تترك هذه الدنيا وراءها، مخترقة الحد الفاصل بين الواقع والمتخيل، فإذا بغيابها تجعل المتخيل بديلًا أجمل من الواقع.
رصيدها يتجاوز 200 عملًا فنيًا بين المسرح والسينما والتليفزيون (يحتل أغلبها موقعًا بارزًا على الخريطة الفنية)، رصيدها ليس وحده سر توهجها، فثمة جاذبية إنسانية تعكس، تتجلي وتؤثر في قلب المشاهد وعقله، سمات وجودية مكتنزة في داخل المعنى الأسمى للتمثيل، تعرف آلية البحث في التفاصيل الصغيرة عن لحظات المتعة التمثيلية.
ذلك أن عايدة، التي توفيت أمس الخميس، تبقى واحدة من قلة صنعت من أدائها لغة حية سمحت له بتغييب الحواجز القائمة بين التناقضات، ودفعتها إلى الانخراط في هذه اللعبة القاسية التي تزيل الأقنعة كي تكشف المستور، وتعيد صوغ الحكاية كي تفكك المخفي وتجعله أقرب إلى القدر منه إلى الغموض، ولعل تدريبها التقني على مواجهة هذه الأسئلة المعلقة عند التخوم الواهية بين الحقائق والوقائع والمحاذير والتناقضات، الذي اختبرته على خشبة المسرح كممثلة راسخة، قادتها إلى تطويع الكاميرا في السينما والتلفزيون بما يخدم طموحها في أداء عالِ لا يترفع عن وعورة الحياة والمجتمع والناس، بل تتخذها مسلكًا للتوغل في وجدان الإنسان ومشاعره ومآزقه، ومنطلقًا لكسر التقليد في الأداء التمثيلي، وأحيانًا منفذًا للخروج من عنق الدور المكرر.
على الرغم من الجدية القاسية في ملامحه المقتبسة من قوة الشخصية، أو من السياق الدرامي، إلا أن عايدة عبد العزيز، التي تُخفي وراء عينيها ابتسامة نائية، لم تبقَ أسيرة الدور الواحد، فالذي يُشاهدها في أعمالها المتباينة، لابد أن يقتنع بممثلة من عجينتها قادرة على خوض أسلوب تمثيلي مختلف تمامًا، من دور لأخر تستطيع تحويل الشخصية، مهما كان ثقلها في النص الدرامي (هامشية/مساعدة أو أساسية)، وأيًا كان موقعها في السياق الحكائي، إلى فعل مؤثر في المفاصل الرئيسة أو في التفاصيل الجانبية. كأنها، بذلك، تتواطأ مع الكاميرا (أم إنها الكاميرا التي تتواطأ معها؟!) بسرية مطلقة، قبل أن يعلنا معًا مؤامرتهما الجميلة، التي تدعو المتفرج إلى رحلة محفوفة بالمخاطر والجمال والهيبة والفتنة الإبداعية والفضاء المشحون بألف انفعال وسطوة. أو كأن الكاميرا تعجز عن البقاء بعيدة عنها، فتدخل معه في لعبة الإبهار: ترمقها بنظرات حنونة، فترد التحية بألف شغف وانبهار.
من هنا، من يمكن أن ينسى خديجة عبدالتواب السبع في "زينب والعرش" (1980) إخراج يحيي العلمي وانخراطها في تكوين تلك القطعة الثمينة من كلاسيكيات الدراما العربية، ومن يمكن أن يتساهل مع نعمت في مسلسل "رحلة المليون" (1984) إخراج أحمد بدر الدين، أو يعض الطرف عن سنية، الأم "الأروبة"، الفطنة التي تعيش مع زوجها (فريد شوقي) وبناتها حياة ريفية بسيطة، ثم تتبصر ميل ابنتها خوخة (ليلى علوي) إلى ضيفهم عطية (يحيي الفخراني)، وتدفعها نحوه كامرأة ضليعة، فتحثها حين تجدها "تُحمم" الحمار وتقول لها:"حمار إيه يا بت اللي انت مهتمية بيه وسايبة الحمار اللي قاعد في البيت"، في إشارة إلى عطية، ومن يمكنه أن يتجاهل رتيبة - الداية أم زغلول في "سكة سفر" الفيلم الثاني الذي أخرجه بشير الديك بعد عامين من فيلمه الأول " الطوفان".
أما عدلات في "النمر والأنثى" (1987) إخراج سمير سيف، فهي واحدة من الشخصيات البارزة التي جسدتهاـ إذ تركت علامة لدى جمهور عريض مازال يردد حتى الآن عبارات من حوارها، ويستشهد بفنجان قهوتها الشهير الذي كانت تعده للرائد وحيد (عادل إمام)، وتضع فيه توليفة مخدرات لتحويله إلى مدمن، بعد كشف هويته كضابط يحاول الإيقاع بزوجها تاجر المخدرات. ومع عادل إمام قدمت دورًا ظريفًا أخر في فيلم "الواد محروس بتاع الوزير" (1999) إخراج نادر جلال، فكانت اعتماد زوجة الوزير زائغ البصر.
بينما أبلة زاهية في مسلسل "ضمير أبلة حكمت" (1991) إخراج إنعام محمد علي، فقد كشف عن جوهرها كممثلة راسخة، خصوصًا في المشاهد التي جمعتها مع فاتن حمامة، إذ انبثق بينهما هذا الوهج الذي يبرهن على حضور اثنتان من أساطين التمثيل، استطاعتا الغوص في أعماق الشخصية والتوحد معها، وهو ما أكدته ووصفته المخرجة إنعام محمد علي في نعيها الذي كتبته عن عايدة عبد العزيز، هذا الوهج نلمسه بالضرورة في دور تفيدة بفيلم "عفاريت الأسفلت" (1996) الأم المشتهاة في واقع إنساني قدمه المخرج أسامة فوزي بجموح يدنو من شخصيات يتشظى مصيرها في مجتمع مهمل، من حارة إلى موقف سيارات الميكروباص، إلى بيت تفيدة العتيق ، الرطب ، مزيج مثير من الأنين الصارخ والرقة القاسية تمتليء به القصة المتشابكة، الزاخرة بشخوص وعلاقات مربكة. في حين نراها أمًا مختلفة في فيلم لأسامة فوزي أيضًا وهو "بحب السيما" (2004)، حيث جسدت شخصية أم نعمات، نموذج للمصرية الواعية، المدبرة التي تضع تواريخًا للبيض كي ترتب أفضل طريقة لاستخدامه في الطعام، شخصية خفيفة الظل، تنزلق الإيفيهات بعفوية من بين كلماتها، حتى حين ترد على المعاكسات التليفونية.
قائمة أعمالها حافلة بأدوار عدة، متميزة، غير أنها لا تكتمل، إلا بمشاهدة أعمالها المسرحية، التي تقدم واحدها من صورها النقية والواضحة، بما يليق بمن بدأت حياتها بدراسة المسرح، قبل أن تجد في السينما والتلفزيون مجالًا رحبًا لأدائها. ذلك أنها درست المسرح، تخرجت من المعهد العالي للفنون المسرحية 1959، بعد أن حصلت على دبلوم المعلمين عام 1956، بين القاهرة ولندن بدأت الرحلة، مشرفة على تدريب الفرق المسرحية بالمدارس، ثم حصولها على دورة تدريبية في الحركة المسرحية والصوت في لندن، حين سافرت مع زوجها الفنان أحمد عبد الحليم لاستكمال دراسته العليا في التمثيل والإخراج ، وحين عادت في العام 1967، استأنفت نشاطها بمسارح الدولة، وقدمت مسرحيات دائرة الطباشير القوقازية إخراج سعد أردش، طائر البحر لتشيكوف إخراج عبد الرحيم الزرقاني، الست هدى إخراج سمير العصفوري، وغيرها من مسرحيات كرستها لتصبح واحدة من أبرز العاملين في المسرح ، ويمكن للمتفرج السينمائي أو التلفزيوني أن يكتشف قوة المسرح في شخصها وروحها، إذا تمعن في أدوارها، لأنه لا بد من التوقف عن نقطة أن عايدة عبد العزيز تبقى واحدة من قلة نجحت في أن تجعل الوقوف أمام الكاميرا تمرينًا مسرحيًا لعظمة الأداء في توغله الغائر في داخل الشخصية، وشحن أدواتها التمثيلية بطاقة تتجلى في كسرها للنمطي في المعانى والصور المختلفة للأنواع الأدائية الثلاثة: مسرح، سينما، تليفزيون.
هل هي صدفة بحتة أن تبدأ مسيرتها السينمائية مع المخرج توفيق صالح 1962، من إخراج توفيق صالح وتنهيها بفيلم الحرامي والعبيط إخراج محمد مصطفى في العام 2003، ليس الأمر تفصيلًا هامشيًا، إذ لا يُمكن للصدفة، وحدها، أن تصوغ مسار إنسانة وضعت ذاتها في مهنة التمثيل وما تعانيه من مصاعب مادية ومعنوية وتحديات ثقافية، إذ لا يتحكم الممثل أحيانًا في مسار المهنة، ويتأثر ماديًا ومعنويًا وثقافيًا بالمتاح، مع هذا، فإن مشوار عايدة عبد العزيز، تأسس منذ بدايته الطالعة من دراسة مسرحية، تعكس توافقًا ضمنيًا بين قدراتها التمثيلية وآفاق الوعي الثقافي والإبداعي لها .
لن أقول إن فن التمثيل خسر، برحيل عايدة عبد العزيز، واحدة من أفضل الممثلين حضورًا وتأثيرًا، فالموت طبيعي وحتمي، كما أن الخسارة حدثت بالفعل منذ سنوات، عقب ابتعادها عن الساحة بعد مرضها وفقدانها لرفيقها وشريك رحلتها، زوجها المخرج أحمد عبد الحليم، لكن من العزاء أن أعمالها باقية بألق وتوقد مستل من روح حيوية يصعب نسيانها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة