نواصل قراءة مشروع المفكر العربى الكبير عباس محمود العقاد (1889 – 1964) الذى قدم عددا كبيرا من الأفكار المهمة ساعدت فى النهضة العربية التى انطلقت فى بدايات القرن العشرين، واليوم نتوقف مع كتابه "التفكير فريضة إسلامية".
يقول الكتاب تحت عنوان "فريضة التفكير فى كتاب الإسلام" من مزايا القرآن الكثيرة مزية واضحة، يقل فيها الخلاف بين المسلمين وغير المسلمين، لأنها تثبت من تلاوة الآيات ثبوتًا تؤيده أرقام الحساب، ودلالات اللفظ اليسير، قبل الرجوع فى تأييدها إلى المناقشات والمذاهب التى قد تختلف فيها الآراء.
وتلك المزية هى التنويه بالعقل، والتعويل عليه فى أمر العقيدة، وأمر التبعة والتكليف.
ففى كتب الأديان الكبرى إشارات صريحة أو مضمونة إلى العقل أو إلى التمييز، ولكنها تأتى عرضًا غير مقصودة، وقد يلمح فيها القارئ بعض الأحايين شيئًا من الزراية بالعقل أو التحذير منه؛ لأنه مزلة العقائد، وباب من أبواب الدعوى والإنكار .
ولكن القرآن الكريم لا يذكر العقل إلا فى مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به، والرجوع إليه، ولا تأتى الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة فى سياق الآية؛ بل هى تأتى فى كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتتكرر فى كل معرض من معارض الأمر والنهى التى يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله، أو يلام فيها المُنكِر على إهمال عقله، وقبول الحجْر عليه.
ولا يأتى تكرار الإشارة إلى العقل بمعنًى واحد من معانيه التى يشرحها النفسانيون من أصحاب العلوم الحديثة؛ بل هى تشمل وظائف الإنسان العقلية على اختلاف أعمالها وخصائصها، وتتعمد التفرقة بين هذه الوظائف والخصائص فى مواطن الخطاب ومناسباته، فلا ينحصر خطاب العقل فى العقل الوازع، ولا فى العقل المدرك، ولا فى العقل الذى يناط به التأمل الصادق والحكم الصحيح؛ بل يعم الخطاب فى الآيات القرآنية كل ما يتسع له الذهن الإنسانى من خاصة أو وظيفة، وهى كثيرة لا موجب لتفصيلها فى هذا المقام المجمل؛ إذ هى جميعًا مما يمكن أن يحيط به العقل الوازع، والعقل المدرك، والعقل المفكر الذى يتولى الموازنة والحكم على المعانى والأشياء.
فالعقل فى مدلول لفظه العام ملكة يناط بها الوازع الأخلاقي، أو المنع عن المحظور والمنكر، ومن هنا كان اشتقاقه من مادة "عقل" التى يؤخذ منها العقال، وتكاد شهرة العقل بهذه التسمية أن تتوارد فى اللغات الإنسانية الكبرى التى يتكلم بها مئات الملايين من البشر؛ فإن كلمة "مايند" Mind وما خرج من مادتها فى اللغات الجرمانية — تفيد معنى الاحتراس والمبالاة، ويُنادَى بها على الغافل الذى يحتاج إلى التنبيه.
ونحسب أنَّ اللغات فى فروعها الأخرى لا تخلو من كلمة فى معنى العقل لها دلالة على الوازع أو على التنبيه والاحتراس …
ومن خصائص العقل ملكة الإدراك التى يناط بها الفهم والتصور، وهى على كونها لازمة لإدراك الوازع الأخلاقي، وإدراك أسبابه وعواقبه، تستقل أحيانًا بإدراك الأمور فيما ليس له علاقة بالأوامر والنواهي، أو بالحسنات والسيئات …
ومن خصائص العقل أنه يتأمل فيما يدركه، ويُقلِّبه على وجوهه، ويستخرج منه بواطنه وأسراره، ويبنى عليها نتائجه وأحكامه. وهذه الخصائص فى جملتها تجمعها ملكة "الحكم"، وتتصل بها ملكة الحكمة، وتتصل كذلك بالعقل الوازع إذا انتهت حكمة الحكيم به إلى العلم بما يحسن وما يقبح، وما ينبغى له أن يطلبه، وما ينبغى له أن يأباه …
ومن أعلى خصائص العقل الإنسانى "الرشد"، وهو مقابل لتمام التكوين فى العاقل الرشيد، ووظيفة الرشد فوق وظيفة العقل الوازع، والعقل المدرك، والعقل الحكيم؛ لأنها استيفاء لجميع هذه الوظائف، وعليها مزيد من النضج والتمام والتميز بميزة الرشاد؛ حيث لا نقص ولا اختلال. وقد يؤتى الحكيم من نقص فى الإدراك، وقد يؤتى العقل الوازع من نقص فى الحكمة، ولكن العقل الرشيد ينجو به الرشاد من هذا وذاك …
وفريضة التفكير فى القرآن الكريم تشمل العقل الإنسانى بكل ما احتواه من هذه الوظائف بجميع خصائصها ومدلولاتها؛ فهو يخاطب العقل الوازع، والعقل المدرك، والعقل الحكيم، والعقل الرشيد، ولا يذكر العقل عرضًا مقتضبًا؛ بل يذكره مقصودًا مفصلًا على نحو لا نظير له فى كتاب من كتب الأديان.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة