نبدأ، اليوم، قراءة مشروع المفكر العربى الكبير عباس محمود العقاد، الذى ولد فى 28 يونيو 1889 ورحل فى مارس من عام 1964 تاركا وراءه إرثا كبيرا ومهما، واليوم نتوقف مع كتابه "الديمقراطية فى الإسلام".
يقول الكتاب الذى صدر فى عام 1952 تحت عنوان "الديمقراطية فى الأديان الكتابية" من تمام البحث فى تطور الديمقراطية قبل الإسلام أن نلم بسوابقها فى الأديان الكتابية التى ظهرت قبل الدعوة الإسلامية، وهى الموسوية والمسيحية، وإحداهما فقط، أى الموسوية، هى التى شرعت نظامًا للحكم كما جاء فى العهد القديم، أما المسيحية فلم تعرض للحكم والتشريع؛ لأنها قامت فى بلاد تدين بالحكم السياسى للدولة الرومانية وتدين بالحكم الدينى لهيكل إسرائيل.
تلقى موسى، عليه السلام ، أحكام الشريعة وأبلغها إلى جميع بني إسرائيل فى سيناء، وقال لهم: إنه تلقى الأحكام وحده؛ لأنهم خافوا من النار التى رأوها على الجبل، فتقدم إليها واقفًا بين الرب وبينهم، وتكلم إليه الرب وجهًا لوجه، وكتب الأحكام على لوحين من حجر وأعطاها إياه.
وقد أمرهم موسى أن يتخذوا لهم كهانًا من قبيلته وهى قبيلة اللاويين، وقال لهم: إن الرب "أفرز سبط لاوى ليحملوا تابوت عهد الرب، ولكى يقفوا أمام الرب ليخدموه ويباركوا باسمه" كما جاء فى الإصحاح العاشر من سفر التثنية.
وأمرهم كذلك أن يتخذوا لهم قضاة وعرفاء، وقال يخاطب إسرائيل: "لا تحرِّف القضاء، ولا تنظر إلى الوجوه، ولا تأخذ رشوة؛ لأن الرشوة تعمى أعين الحكماء، وتعوّج كلام الصديقين."
قال يخاطب إسرائيل: "إذا عسر عليك أمر القضاء بين دم ودم أو بين دعوى ودعوى أو بين ضربة وضربة من أمور الخصومات فى أبوابك فقم واصعد إلى المكان الذى يختاره الرب إلهك، واذهب إلى الكهنة اللاويين وإلى القاضى الذى يكون فى تلك الأيام واسأل فيخبروك بأمر القضاء … والرجل الذى يعمل بطغيان فلا يسمع للكاهن الواقف هناك ليخدم الرب إلهك أو للقاضى يقتل فتنزع الشر من إسرائيل".
وعلم ، عليه السلام، من أن قومه سيتشبهون بمن حولهم، ويطلبون لهم ملكًا فى يوم من الأيام، فأوصاهم موجهًا خطابه إلى إسرائيل: "متى أتيت إلى الأرض التى يعطيك الرب إلهك وملكتها وسكنت فيها، فإن قلت اجعل على ملكًا كجميع الأمم الذين حولى فإنك تجعل عليك ملكًا يختاره الرب إلهك من وسط إخوتك … ولا يحل لك أن تجعل عليك رجلًا أجنبيًّا ليس هو أخاك."
قال: "وعندما يجلس على كرسى مملكته يكتب لنفسه نسخة من هذه الشريعة فى كتاب من عند الكهنة اللاويين".
وعلى هذا فارق موسى قومه وهم يدينون لملك غير منظور هو "يهوا" ملك إسرائيل، ويرجعون فى استماع أوامره ونواهيه إلى الحبرأو القاضى الذى يتلقى الوحى من عرش الإله، وظلوا كذلك إلى أيام قاضيهم صمويل يرضون بقضائه، ولا يطلبون ملكًا من بينهم لولاية أمرهم، ثم شاخ صمويل وأناب عنه ولديه فلم يسلكا مسلك أبيهما؛ بل مالا إلى الكسب كما جاء فى الإصحاح الثامن من سفر صمويل الأول "وأخذا رشوة وعوجا القضاء، فاجتمع كل شيوخ إسرائيل … وقالوا لصمويل: إنك قد شخت وابناك لم يسيرا فى طريقك فالآن فاجعل لنا ملكًا يقضى لنا كسائر الشعوب."
وساء الأمر فى عينى صمويل فتوجه إلى ربه بالدعاء، فقال له الرب: "اسمع لصوت الشعب فى كل ما يقولون لك؛ لأنهم لم يرفضوك أنت بل إياى رفضوا … فالآن اسمع لصوتهم واشهد عليهم وأخبرهم بقضاء الملك فيهم."
فمضى صمويل ينبئهم بما ينبغى أن يحذروه من حكم ملوكهم، وقال لهم: "هكذا يكون قضاء الملك الذى يملك عليكم: يأخذ بنيكم ويجعلهم لنفسه ولمراكبه وفرسانه، ويجعل لنفسه رؤساء ألوف ورؤساء خماسين فيحرثون حراثته ويحصدون حصاده ويعملون عدة حربه وأدوات مراكبه، ويأخذ بناتكم عطارات وطباخات وخبازات، ويأخذ من حقولكم وكرومكم وزيتونكم أجودها ويعطيها لعبيده، ويعشر زروعكم وكرومكم ويعطى لخصيانه وعبيده، ويأخذ عبيدكم وجواريكم وشبانكم الحسان وحميركم ويستعملهم لشغله، ويعشر غنمكم وأنتم تكونون له عبيدًا".
فلم يسمع الشعب لنصيحة القاضى الحكيم، وقالوا: "لا بل يكون علينا ملك … مثل سائر الشعوب … يقضى لنا ويخرج أمامنا ويحارب حروبنا … فسمع صمويل كلام الشعب وتكلم به فى أذنى الرب، فقال له الرب: اسمع لصوتهم وملك عليهم ملكًا."
ويبدو من صفة شاؤل الذى اختاره صمويل ملكًا أن القيادة العسكرية كانت هى المطلب الأول الذى يراد الملك المختار من أجله، فقد اختاره فتى طويل القامة عريض المنكبين، ولم يجعله من الشيوخ المحنكين؛ لأن قيادة الرأى والشئون الروحية بقيت بعد اختيار الملك من عمل القاضى الحكيم.
جاء فى الإصحاح العاشر من سفر صمويل الأول أنه «أخذ قنينة الدهن وصب على رأسه وقبله … واستدعى الشعب … ووقف شاؤل فكان أطول من كل الشعب من كتفه فما فوق، فقال صمويل: أرأيتم الذى اختاره الرب؟ إنه ليس مثله فى جميعكم؛ فهتف الشعب كله: ليحى الملك ".
وقد احتفظ صمويل لنفسه بالسلطان الروحي، ولم يأذن للملك بالنيابة عنه فى أداء مراسمه، فلما غاب عن موعده مرة نادى الملك من حوله: "وقال: قدموا إلى المحرقة وذبائح السلامة …» فغضب صمويل حين حضر، وسأله منتهرًا: ماذا فعلت؟ وآذنه بالعزل وأن ملكه لا يدوم، وقال: «كان الرب قد ثبت مملكتك على إسرائيل إلى الأبد، أما الآن فمملكتك لا تقوم، وقد انتخب الرب لنفسه رجلًا حسب قلبه"
على هذا الأساس قامت قواعد الحكومة فيما أثبته كتاب العهد القديم، وبقيت عليه الحكومة التى قامت فعلًا من بيت شاؤل وبيت داود من بعده، ولم يعترف أحبار اليهود بحكومة شرعية بعد الحكومة التى قامت من بيت داود، فلما قامت حكومة المكابيين كره ولاتها أن يلقبوا أنفسهم بلقب الملك، ولم تظهر صورة واحد منهم على مسكوكات العملة قبل الوالى الرابع، ولما قامت حكومة هيرود تبرَّم بها الأحبار والشعب معًا؛ لأنهم أدوميون من غير إسرائيل وإن كانوا يدينون بالديانة اليهودية، وسيق كبيرهم إلى محكمة الأحبار؛ لأنه أباح لنفسه أن يقضى بالموت على قطاع الطرق بغير إذن من المراجع الدينية، وما زال العداء مستحكمًا بين إسرائيل وهذه الأسر، حتى استجابت الدولة الرومانية لشكاياتهم المتكررة فعزلت آخرهم «أرشلاوس» ولم يخلفه أحد على أسرة حاكمة.
وجملة ما يقال فى وصف هذا النظام الحكومى بالصفة العصرية أنه نظام يجمع بين التيوقراطية والعنصرية والديمقراطية، فهو ثيوقراطى لأن اختيار الحكام والقضاة موكول فيه إلى الأحبار والكهان، وهو عنصرى لأنه خاص ببنى إسرائيل ووظيفة الكهانة فيه مقصورة على سلالة معينة من السلالات الإسرائيلية، وهو ديمقراطى لأنه يسمح للشعب بطلب النظام الذى يؤثره ومبايعة الحاكم الذى يرشحه الأحبار، وسنرى فيما يلى أن النظام الديمقراطى كما بسطه القرآن الكريم والسنة المحمدية لم يتطور من هذا النظام.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة