يُعَدّ عماد الدين زنكي واحدًا من أبرز القادة الذين مهدوا الطريق لمرحلة جديدة في مقاومة الصليبيين، فهو المؤسس الحقيقي للدولة الأتابكية التي مثّلت نقطة تحوّل في ميزان القوى بين المسلمين والفرنج، وفي زمن كانت فيه بلاد الشام تتعرض لضغط هائل من الحملات الصليبية، ولم يتبقّ للمسلمين فيها سوى بضع مدن متفرقة مثل حمص وحماة ودمشق، ظهر نجم زنكي ليحمل لواء الجهاد ويعيد الأمل في استعادة ما سقط من أراضي المسلمين. ومن خلال سياساته العسكرية وبراعته في إدارة الحكم، استطاع أن يضع الأسس التي أكمل عليها ابنه نور الدين محمود ثم صلاح الدين الأيوبي مشروع التحرير الكبير.
من هو عماد الدين زنكي؟
ينتمي عماد الدين زنكي إلى أسرة عريقة؛ فهو ابن آق سنقر الذي كان أحد مماليك السلطان السلجوقي ملكشاه. وقد حاز والده مكانة مرموقة حتى لُقّب بقسيم الدولة وأُقطع حلب وما حولها من مدن مثل حماة ومنبج واللاذقية وتكريت. غير أن نهايته جاءت على يد تتش السلجوقي سنة 487هـ، وبعد مقتله بعام واحد قُتل تتش نفسه، الأمر الذي أتاح لابنه عماد الدين أن يعيد بناء مُلك أبيه ويستعيد نفوذه.
ومع مرور السنوات برز اسم زنكي بقوة، فتمكن من السيطرة على مناطق واسعة شملت واسط والبصرة إلى جانب الموصل والجزيرة ونصيبين. وحين اشتد خطر الصليبيين في الشام وتراجعت أراضي المسلمين حتى لم يبقَ لهم سوى دمشق وحمص وحماة، تعلقت الأنظار بزنكي ليكون المنقذ. وبالفعل نجح في استرداد مدينة حلب سنة 522هـ، كما ضم حماة إلى سلطانه، وواصل صراعه العسكري مع الصليبيين حتى اغتياله سنة 541هـ/1146م.
حروب عماد الدين زنكي
كان زنكي يتطلع إلى تثبيت سلطانه الداخلي عبر الضغط على السلطان السلجوقي مسعود، ليتفرغ بعد ذلك لمواجهة الحملات الصليبية. وجاءت ذروة انتصاراته باسترداد مدينة الرها سنة 539هـ/1144م، وهو فتح اعتُبر نقطة فاصلة في تاريخ الحروب الصليبية، إذ مثّل بداية انحسار النفوذ الصليبي في المشرق كما وصفه المؤرخ باركر.
ولم تقتصر طموحات زنكي على ذلك، بل حاول مرارًا الاستيلاء على دمشق، غير أن تحالف الصليبيين مع أتابكتها كان يحول بينه وبين تحقيق هدفه، فكان يضطر إلى التراجع. ومع ذلك، تمكّن في نهاية المطاف من دخول دمشق والسيطرة عليها سنة 549هـ/1154م.
وبعد اغتياله، انقسمت دولته بين ولديه: سيف الدين غازي الذي اتخذ الموصل مقرًا له، ونور الدين محمود الذي جعل من حلب قاعدة لحكمه. وتعاون الشقيقان في مواصلة الجهاد ضد الصليبيين، حتى جاء صلاح الدين الأيوبي فيما بعد ليوحّد الدولة الأتابكية ضمن دولته الواسعة ويستكمل مشروع المقاومة والتحرير الذي أسسه عماد الدين زنكي.