كم استثار وجداني مشهد في مسلسل "للعدالة وجوه كثيرة" للكاتب الرائع "مجدي صابر"، وهذا المشهد لبطل العمل النجم الكبير ذو الحس العالي "يحيى الفخراني" عندما ترك العالم بأكمله وذهب إلى سيدة عجوز غائبة عن الوعي رغم أنها مُتيقظة، لكي يروي لها مأساته التي وقعت فيها ابنته الوحيدة، وظل يحكي ويبكي رغم يقينه أنها لا تُدرك أي شيء مما يقول، وقد جسدت هذا الدور العملاقة الراحلة "أمينة رزق".
ففلسفة هذا المشهد تُوحي بأن الإنسان كثيرًا ما يجد راحته في الحديث مع شخص لا يُناقشه ولا يُجادله ولا يُعاتبه، ولا حتى ينصحه ويُرشده، فهو فقط يُريد أن يتكلم ويحكي ويشكي، وربما يصرخ ويصيح وهو مطمئن أنه لن يجد مَنْ يُوقفه أو يلومه أو يُزايد عليه في لحظة ضعفه.
فروعة الكاتب أنه أظهر جزءً غالبًا ما يتأرجح بداخل كل إنسان، فكل منا يحتاج إلى هذه اللحظة التي يشعر فيها أنه يتحدث إلى نفسه، ولكن دون أن يكون بمفرده حتى لا تقتله الوحدة ولا يشعر بالعُزلة، ولا يتحرج أو يتخوف من فكرة أنه جُنَّ وأصبح يُحاور نفسه.
وأجمل ما في هذا المشهد نهايته والتي ارتمى فيها البطل على صدر السيدة العجوز وظل يبكي وهي بدأت تربت على وجهه بحنان وتُغني له وكأنه طفل صغير ينحب، فكم برع الكاتب في تجسيد هذه اللحظة التي يتيقن فيها الإنسان من عجزه مهما بلغت قوته الحياتية، فالبطل كان رجل أعمال ثري وذو صيت ويملك حب وتقدير واحترام كل مَنْ حوله، وله علاقات لا حصر لها، ورغم ذلك قرر أن يترك كل مَنْ حوله ومَنْ يتمنون رضاءه والقرب منه، وآثر أن يذهب إلى سيدة عجوز، شاء القدر أن يلتقي بها بالصدفة ويضعها في دار للمسنين، ويظل يتردد عليها ويهتم بها رغم أنه لا يعلم أي شيء عنها، ولكنه في لحظات ضعفه كان يُؤثر أن يرتمي في أحضانها ويُلقي بهمومه على عتبة حنانها، ورغم عدم وعيها لما يدور حولها إلا أن نظرات عينيها كانت دائمًا تُشْعره أنها تحس بآلامه وتنعي همومه، وتُناجي الله لفك كربه.
أظن أننا جميعًا نبحث عن الشخص الذي يشعر بنا دون أن يستعرض علينا ملكاته الفكرية، وثراءه اللغوي، وخبراته الحياتية، ولكن كم منا يُسعفه الحظ في إيجاد هذا الشخص ولو بالصدفة.