بيشوى رمزى

الأيديولوجية المرنة

الأحد، 16 مارس 2025 11:38 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

الخروج من عباءة الأيديولوجية، تبدو المعضلة الأكبر التي تواجه الساسة حول العالم، في ضوء كونها تتعارض إلى حد كبير، خلال أوقات كثيرة، مع معطيات الواقع السياسي، وهو ما يبدو في العديد من المشاهد الدولية سواء في الماضي أو الحاضر، مما ساهم بصورة أو بأخرى في انحلال شعبية الأحزاب التقليدية في العديد من دول العالم، في مقابل انتصارات كبيرة باتت تحققها أحزاب مغمورة، وأخرى حديثة النشأة على حساب أحزاب عريقة، يحمل رجالها من خبرات العمل في دهاليز السياسة الكثير، وهو ما يبدو في حزب "الجمهورية" الذي وصل بالرئيس إيمانويل ماكرون إلى عرش الإليزيه قبل أن يمضي عام واحد على نشأته، بينما تكرر المشهد في دول أخرى، أصبحت مؤثرة في صناعة القرار السياسي، تتصدرها تيارات اليمين، خاصة في أوروبا الغربية.

ولعل الحديث عن تبادل الأدوار، بين العقيدة الأيديولوجية للأحزاب ومن ورائها الساسة، من جانب، والهوى العام للشارع السياسي، من جانب آخر، ملفتا إلى حد كبير، حيث لم يعد كافيا تغيير الخطاب الانتخابي للمرشحين، في ضوء رؤية الناخبين للأفكار العتيقة التي تتبناها الكيانات الداعمة لهم، وهو ما ساهم بصورة كبيرة في بزوغ نجم الأحزاب الجديدة، أو تلك المغمورة التي طالما فشلت فشلا ذريعا بسبب أيديولوجياتها التي لم تكن من قبل تروق للشارع، ويبقى السر في التغيير متمثلا في الظروف المحيطة، سواء في الداخل أو على المستويين الإقليمي أو الدولي، وما يترتب عليهما من تفاعلات مع الأوضاع في الداخل، وفي القلب منها الوضع الاقتصادي، والذي يبقى الأولوية القصوى للناخب، عندما يضع صوته في صندوق الاقتراع.


فلو نظرنا إلى صعود اليمين المتطرف في أوروبا، نجد أن ثمة مقاربات كبيرة بين برامجها ورؤى الشارع السياسي، خاصة فيما يتعلق بمسائل الهجرة، والاقتصاد وأبعاد السيادة والهوية وغيرها، مما ساهم بصورة أو بأخرى في بزوغ نجمها، بينما تبقى الظروف الدولية، على الجانب الآخر داعما لها، مع تنامي التهديدات، جراء الأزمة الأوكرانية، وما تحمله من تهديد صريح لأمنها، مما يتطلب من وجهة نظر البعض الانكفاء على الذات بعيدا عن اعتبارات الوحدة القارية.


معضلة الأحزاب التقليدية، في دول العالم المتقدم، خاصة في أوروبا الغربية، تجلت بوضوح في غياب الأيديولوجيات المرنة، التي يمكن تطويعها لصالح المصلحة الوطنية، بكل أبعادها، سواء المرتبطة بسيادتها أو مؤسساتها أو مواطنيها، وهو ما يهدد حتى الأحزاب ذات الشعبية المتصاعدة حاليا، في المستقبل، في ضوء الحاجة إلى المزيد من التكامل مع المحيط الإقليمي خلال المرحلة المقبلة، ليس فقط لاعتبارات أمنية تتعلق بما يرونه من تهديد جراء الأزمة الأوكرانية وتداعياتها، وإنما تمتد إلى ما يدور من حديث غير مسبوق حول سيادة أراضيها، في ظل دعوات الضم التي يدعو إليها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي تجاوزت محيطه الجغرافي، نحو الحديث عن السيطرة على أراض بعيدة نسبيا، وعلى رأسها جزيرة جرينلاند، وهو ما يتطلب دعما أوروبيا أكثر شمولا، من شأنها إضفاء الحصانة للدول الأعضاء، وهو ما يتطلب الوصول إلى حالة مرنة يمكنها التوفيق بين حالة الاتحاد، والتي تسعى واشنطن لفكها، والاحتفاظ بسيادة الدولة.


المرونة المطلوبة لا تقتصر على مواقف الدولة المناوئة للاتحاد، وإنما أيضا تبدو ممتدة في سياسات أوروبا الموحدة، والتي يجب عليها التركيز على احترام سيادة الدول الأعضاء وعدم التدخل في شؤونها، عبر فرض سياسات معينة، أو الإفراط في استخدام عصا العقوبات تجاه المخالفين، في ضوء حقيقة مفادها أن احترام سيادة الدول الأعضاء في الاتحاد، ينبغي أن ينطلق من الكيان الموحد، وذلك إذا ما نظرنا أن سببا رئيسيا في الانتهاك الخطابي لحدود دول القارة يتجلى في إذابة سيادتها عبر هيمنة كبيرة للتكتل القاري، مع انفتاح حدودها بصورة كبيرة إلى حد أذاب حقوق المواطن، مما أثار تمرده على الوحدة، وعلى أحزاب بلاده المؤيدة للاتحاد والموالية له.


وبالنظر إلى الحالة الأمريكية، نجد أن ثمة حالة من المرونة، تراوحت في سياسات الحزبين الرئيسيين، وأقربهما الحزب الجمهوري، والذي وإن كان معروفا بميوله المحافظة، إلا أنه لم يتجاوز خطوطا ليبرالية معينة، على غرار الانفتاح ومبادئ الاقتصاد الرأسمالي، ناهيك عن مبادئ التجارة الحرة والعولمة والديمقراطية وحقوق الإنسان والحدود المفتوحة، وغيرها، إلا أنه بدا متخليا عنها خلال حقبة ترامب الأولى، تماهيا مع الهوى السياسي للشارع الأمريكي، مما يعكس قدرا كبيرا من المرونة السياسية التي ربما غابت جزئيا الديمقراطيين، أو على الأقل الطغمة المهيمنة عليهم، في ظل صعود أصوات ليبرالية بينهم، تحمل توجهات اشتراكية، على غرار بيرني ساندرز، عبر سياسات اجتماعية تخدم الفقراء، وهو ما يتعارض بصورة كبيرة مع الخطاب الليبرالي، إلا أنه لم يتمكن من تجاوز الانتخابات التمهيدية للرئاسة الأمريكية في مرتين متتاليتين، مما ساهم بصورة كبيرة في عودة ترامب إلى البيت الأبيض، لولاية ثانية، يفصلها 4 سنوات عن ولايته الأولى.


وهنا يمكننا القول بأن الأيديولوجية في ضوء التجارب التي تتبناها دول العالم المتقدم، لم تعد بعدا حاكما، في العالم الجديد، على عكس الماضي، والتي قامت خلاله الصراعات الدولية على أساسها، على غرار الحرب الباردة، والتي انتهت بانهيار الشيوعية وانتصار الرأسمالية، بينما تبقى الأخيرة، ومعها ما ارتبط بها من مبادئ سياسية واجتماعية، في حالة ترنح، جراء مرحلة مخاض يشهدها العالم في اللحظة الراهنة، وهو ما يتطلب ما يمكننا تسميته بـ"أيديولوجيات مرنة"، تعيد إلى المواطن اعتباره، بينما تحتفظ للدولة بسيادتها ومؤسساتها، في الوقت الذي ينبغي فيها أن تحتفظ بحدود معينة من التكامل مع المحيط الإقليمي، بحيث تحظى من خلاله بقدر من الحماية والحصانة في مواجهة ما قد يطرأ عليها من تهديدات.

 










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة