يبدو أن الحالة التنموية المتصاعدة التي تبنتها بعض الدول العربية، خلال العقد الأخير، ساهمت بصورة كبيرة في ضمان قدر من الصمود في مواجهة العديد من الأزمات، ربما أبرزها سلسلة الاعتداءات الوحشية الأخيرة التي شنها الاحتلال الإسرائيلي على المنطقة العربية، والتي استمرت لـ15 شهرا كاملة، حيث اندلعت من غزة، مرورا بلبنان وسوريا وحتى اليمن، لتضع المنطقة بأسرها على شفا حرب إقليمية شاملة، جراء حالة التعنت التي تبنتها الدولة العبرية تجاه مقترحات وقف إطلاق النار، لتنجم عنها خسائر كبيرة، طالت في واقع الأمر إسرائيل، إلى جانب دول المنطقة، بينما كانت الأراضي الواقعة في دائرة العدوان هي الخاسر الأكبر، في ضوء ما تناولته العديد من التقييمات حول تكاليف إعادة الإعمار هنا أو هناك، والتي تتجاوز في حالة غزة بضع عشرات من مليارات الدولارات.
ولعل الخسائر تبدو النتيجة الحتمية للصراع، إلا أن الصمود، سواء في صورته السياسية، في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية، أو حتى الاستقرار الاقتصادي النسبي، بالنظر إلى الظروف المحيطة، هو أيضا نتيجة لتلك الحالة التي تشكلت في المنطقة في العقد الأخير، والتي تجسدت في بناء ما يمكننا تسميته بـ"المعسكر التنموي"، والذي تمكن بصورة كبيرة من تقديم معالجات لأزمات الداخل، باتت منطلقا لعلاج الأزمات الأوسع نطاقا، على النطاقين الإقليمي والدولي، وهو ما يبدو على سبيل المثال في الرؤى التي تطرحها مصر والقائمة على تصدير تلك الحالة إلى غزة، عبر مشروعات من شأنها ليس مجرد إعادة بناء القطاع المنهار، وإنما تتجاوز ذلك عبر تعزيز صمود سكانه بخلق فرص مواتية لهم في حياة كريمة، تعزز صمودهم في مواجهة ما يطرأ عليهم من تحديات، أمام محاولات مشينة لإجبارهم على ترك أراضيهم.
إلا أن الرؤية المصرية القائمة على توسيع الحالة التنموية، في واقع الأمر لم تقتصر على منطقة الشرق الأوسط، وإنما تبدو ممتدة إلى محيطها الإفريقي، وهو ما يبدو في العديد من الشراكات التي دشنتها القاهرة، مع العديد من دول القارة خلال السنوات الأخيرة، في إطار بناء "معسكر تنموي" جديد، في إفريقيا، وهو ما يبدو بوضوح في نماذج عدة، ربما أحدثها زيارة رئيس زامبيا هاكيندي هيشيليما إلى القاهرة ولقاءه بالرئيس عبد الفتاح السيسي، والحديث حول التعاون الاقتصادي، والحاجة إلى إطلاق مشروعات مشتركة، وتوقيع مذكرات تفاهم بين الجانبين، وهو ما يمثل نتيجة مباشرة لسياسات وخطوات كبيرة اتخذتها الدولة في هذا الإطار خلال العقد الأخيرة، ربما أبرزها التوسع الكبير في العلاقة مع دول القارة، بحيث لا تصبح قاصرة على دول حوض النيل، عبر تقديم الخبرات التي ساهمت في العديد من المشروعات، على غرار سد جوليوس نيريري في تنزانيا، مما يعكس حقيقة الدعم الذي تقدمه الدولة المصرية للتنمية في القارة، طالما لا تتعارض مع مصالح الدول الأخرى بالإضافة إلى مشروع الربط البرى "القاهرة – كيب تاون"، والذي يعكس التطور الكبير في العلاقة بين مصر وجنوب إفريقيا.
الرؤية التنموية المصرية، تبدو متكاملة، فهي تحمل العديد من المسارات، على غرار تجربة الداخل، ففي الوقت الذي اقتحمت فيه الدولة العديد من المناطق المهمشة داخل أراضيها، تسعى في اللحظة نفسها نحو تعزيز مناطقها الجغرافية، في إطار "معسكرات تنموية"، من شأنها المساهمة ليس فقط في تحسين الحياة وجودتها داخل الدول، وإنما أيضا تعزيز الصمود في مواجهة ما يطرأ من تحديات، سواء كانت مرتبطة بالاقتصاد أو السياسة أو الأمن أو غير ذلك.
والعلاقة باتت وثيقة بين القضايا، حيث أثبتت التجربة أن الشراكة التنموية بين الدول أصبحت الرابط الأقوى بينها، وهو ما يعكس حالة من التضامن الإفريقي مع المواقف المصرية تجاه العديد من القضايا الدولية والإقليمية، ربما أبرزها القضية الفلسطينية، والتي شهدت تحولا قاريا في إطار عملي، يتجلى في الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية ضد الاحتلال الإسرائيلي، والتي انضمت لها الدول تباعا، وهو ما يمثل طفرة مهمة في استعادة الزخم القاري في دعم قضية فلسطين، مما يضفي لحقوق الشعب الفلسطيني مزيدا من الشرعية الدولية.
معسكرات التنمية في رؤية الدولة المصرية لم تقتصر على محيطها الإقليمي في الشرق الأوسط أو في إفريقيا، وإنما امتدت إلى أوروبا عبر شراكات، أبرزها ثلاثية اليونان وقبرص، والتي تحولت إلى كيان دولي أكبر، تحت مسمى منتدى غاز شرق المتوسط، بالإضافة إلى التحركات التي اتخذتها القاهرة نحو تعزيز التعاون مع العديد من دول أوروبا، منها تجمع فيشجراد وغيره.
وهنا يمكننا القول بأن "المعسكرات التنموية"، تعد بمثابة الوجه الدبلوماسي للدولة المصرية، في مناطقها الجغرافية، والمقابل لـ"مسارات التنمية" التي تتبناها في إطار تجربتها الداخلية، وهو ما يعكس انسجاما بين السياسات من جانب، بالإضافة إلى إدراك ووعي بطبيعة التحديات التي تواجه العالم الجديد، والكيفية التي يمكن مواجهتها بها، عبر تعزيز التضامن الدولي، خاصة بين دول الإقليم الواحد، خاصة مع تصاعد النزعات التوسعية في العالم خلال اللحظة الراهنة، والتي قد تنذر بميلاد حقبة جديدة من الاستعمار، الذي قد يحمل وجها ناعما بعيدا عن استخدام القوة العسكرية المفرطة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة