ما من نهضةٍ فى التاريخ قامت على الأمنيات، بل على المعرفة والعلم والإنتاج العقلى. والعلم فى هذه الألفية لم يعُد رفاهية ثقافية ولا شعارًا براقًا فى الخُطب، بل صار معيار القوة الوحيد بين الأمم. فالدولة التى تُتقن لغة العلم هى من تُمسك بزمام المستقبل، ومن يتنكر للعلم سيعيش على هامش الحضارة مهما امتلك من موارد.
تشير البيانات الحديثة إلى أن الإنفاق على البحث والتطوير فى مصر بلغ نحو 1.03% من الناتج المحلى الإجمالى عام 2023، وهى نسبة تُعدّ بداية جيدة، لكنها لا تكفى لدولة تسعى لريادة إقليمية وتقدّم تكنولوجى حقيقي. فى المقابل، تنفق كوريا الجنوبية مثلا قرابة 5% من ناتجها المحلى على البحث العلمي، وهو ما يفسّر كم نوع الناتج جراء هذا الإنفاق. بلا شك، إنتاج التكنولوجيا لا يتطلب فقط عقولا نابهة، وإنما أيضا يتطلب دعما يقف وراءها.
ومن ناحية الكوادر البحثية، فلدى مصر نحو 845 باحثًا فى مجالات البحث والتطوير لكل مليون نسمة، فى حين يتجاوز العدد فى كوريا الجنوبية تسعة آلاف باحث. هذه الفجوة الرقمية تُترجم مباشرة إلى فجوة فى الإنتاج العلمي، وبراءات الاختراع، ونسبة الصادرات المعرفية.
ومع ذلك، فإنّ مصر تمتلك من المقوّمات ما يؤهّلها لتقفز خطوات سريعة. كما أن هناك نهضة كبيرة فى كثير من القطاعات، وخطط تنموية طموحة وهو ما يؤكد عليه دائما الرئيس عبد الفتاح السيسى، فمثلا قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات يحقق نموًا مطّردًا، إذ بلغت صادرات الخدمات الرقمية نحو 6.2 مليار دولار عام 2023، وارتفعت مساهمته فى الناتج المحلى إلى قرابة 5.8%. هذا يعنى أن لدينا قاعدة تكنولوجية واعدة، وشبابًا مؤهّلًا يمكن أن يصبح ركيزة النهضة القادمة إذا ما وُجِّه الاستثمار إلى التعليم والبحث والابتكار.
إنّ الطريق إلى المستقبل يبدأ من المدرسة والجامعة والمختبر، فحين ربطت الدول المتقدمة البحث العلمى بالصناعة، تحوّلت مختبراتها إلى مصانع، وبحوثها إلى فرص عمل. أما حين ينفصل العلم عن التطبيق، يبقى مجرّد أوراق تُحفظ فى الأدراج.
ما تحتاجه مصر اليوم هو أن تضع العلم فى صدارة سياساتها العامة، فتعتبره استثمارًا قوميًّا طويل الأمد، لا بندًا ثانويًا فى الموازنات. فكل جنيهٍ يُنفق فى البحث العلمى يعود أضعافًا حين يُترجم إلى تكنولوجيا تقلّل الواردات أو تفتح أسواقًا جديدة.
إنّ تخصيص 3% من الناتج المحلى للبحث والتطوير خلال عقدٍ واحد ليس حلمًا بعيدًا، بل ضرورة وطنية لضمان موقع مصر فى العالم الجديد، عالم الذكاء الاصطناعى والتكنولوجيا الحيوية والطاقة المتجددة والثورة الرقمية. كما ينبغى أن تتكامل هذه الخطوة مع خطة وطنية لدعم الباحثين الشباب وتسهيل تحويل نتائج الأبحاث إلى تطبيقات صناعية وتجارية، مع توفير بيئة تشريعية تُحفّز القطاع الخاص على المشاركة.
إنّ ما تبنيه مصر اليوم من مدنٍ وطرقٍ وجسور هو إنجاز يستحق الفخر، كما أن بناء الإنسان هو أيضاً بناء للوطن. نحن بحاجة إلى ثورة علمية تُوازى ثورتنا فى التنمية، ثورةٍ تضع المعرفة فى مقدمة الأولويات، وتجعل من العلم محورًا فى مشروع الدولة.
فإذا أردنا لمصر أن تمتلك المستقبل، فعلينا أن يكون هدفنا العلم وتطوير مجالاته، لأنه ليس فقط وسيلة للتقدّم، بل هو فى جوهره ضمانة البقاء وكرامة الإنسان.