الضغوط على مصر وقيادتها لقبول مخطط تهجير الفلسطينيين من أرضهم لم ولن تجدي نفعا، فالموقف المصري الذي عبر عنه بوضوح وصرامة وحسم وبلسان مبين الرئيس السيسي وصل صداه لجميع الأطراف خاصة في واشنطن وتل أبيب، أن سيادة الحدود وحماية الأمن القومي المصري، ودعم الحق الفلسطيني، قضايا لا يمكن المساومة عليها، فهى ثوابت راسخة في صلب السياسة المصرية.
مصر لا يمكن أن تشارك في ظلم ترحيل وتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه، ولا يمكن لها أن تتساهل مع هذه التصورات التي تصطدم مع المصالح الفلسطينية والعربية، كما أن القاهرة لا يمكن لها أن تتنازل عن ثوابتها التاريخية بشأن القضية الفلسطينية وحق الفلسطينيين في دولتهم المستقلة.
ولعل مشهد الطوفان البشري لأكثر من 350 ألف فلسطيني عبروا من جنوب وادي غزة إلى منازلهم المدمرة شمال القطاع المدمر، كان أفضل رد على مقترح الرئيس ترامب بتهجير سكان غزة إلى دول الجوار، فهم يؤكدون بصورة عملية أنه رغم الدمار الهائل والكارثة والمعاناة التي يعيشون فيها على مدى 15 شهرا، لا يزالون صامدون ومتمسكون بأرضهم في مجابهة مخطط التهجير ولن يتماهوا مع أي خطط لتصفية قضيتهم العادلة.
العجيب حقيقية أن يخرج "آدم بولر"، مستشار الرئيس ترامب الخاص لشئون الرهائن بتصريح، يطالب فيه مصر والأردن بتقديم مقترحا بديلا تعتقدان أنه أفضل بعد رفضهما طرح ترامب تهجير مليون ونصف فلسطيني. فبدلا من أن يطلب البديل من نتنياهو وائتلافه الحاكم ممن تسببوا بهذا التدمير في غزة والذي لم تشهده البشرية منذ الحرب العالمية الثانية، إذا به يطالب دول الجوار بإيجاد حلول لمشاكل إسرائيل وقادتها المتطرفين.
لا يمكن بحال من الأحوال تجاوز كل القواعد والأسس والمحددات التي أقرتها الشرعية الدولية حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فلا سلام دائم وحقيقي في الشرق الأوسط دون حل عادل وشامل لهذا الصراع، وهذا السلام لن يفرض بالقوة كما يعتقد ويتصور الرئيس ترامب، فليس هناك أي طرف فلسطيني أو عربي سيقبل تحت أي ضغوط تصفية القضية الفلسطينية وإسقاط حق العودة للملايين في الشتات وإحداث نكبة أخرى.
بدلا من أن تمارس الولايات المتحدة الأمريكية دورها كوسيط وراعي لتحقيق السلام العادل في الشرق الأوسط، إذا بها تتماهى مع كل طموحات وتطلعات اليمين الديني في إسرائيل، في مشهد يبدو فيه أنها لا تعبأ بصورتها ولا بمصالحها في الشرق الأوسط ودول العالم، جراء انحيازها السافر لإسرائيل، وتخليها عن الحد الأدنى من القيم الأخلاقية والنزاهة.
إذا كانت إدارة ترامب تبحث عن خطة بديلة لمقترح تهجير الفلسطينيين، فيمكن لها أن تركز على إنجاح اتفاق وقف إطلاق النار الجاري، والعمل على ضمان تنفيذ المرحلة الثانية والثالثة والوصول لوقف مستدام للحرب، مع الإشارة أن جميع الأطراف الإقليمية والدولية متفقة على أن السلطة الوطنية الفلسطينية هى الجهة الوحيدة المنوط بها إدارة غزة في اليوم التالي، وأن حماس لن تحكم غزة مرة أخرى، وعليه تحتاج إدارة ترامب أن تضغط على نتنياهو لقبول عودة السلطة.
بدلا من تهجير أكثر من مليون غزاوي، يمكن لإدارة الرئيس ترامب أن تعمل على إدخال "مليون كرافان"، كمساكن بديلة للفلسطينيين لحين الانتهاء من مشروعات الإعمار، وأن تكون هذه الكرافانات موزعة على مختلف مناطق قطاع غزة خاصة شمال القطاع، مع وجود الآلاف من الحمامات المتنقلة، وغيرها من الأساسيات (مصادر للطاقة والمياه)، توفر الحد الأدنى من الحياة، فإسرائيل تمنع حتى الآن إدخال الكرافانات داخل القطاع، وهذا بدعم أمريكي، وهو ما بدا أنه يتم لربط إعادة إعمار القطاع بحدوث مخطط التهجير، فالجيش الإسرائيلي يمنع دخول أي مواد لها علاقة بإعادة الإعمار، كجزء من مخطط لا يزال قائم من جعل القطاع غير قابل للحياة وبالتالي دفع الفلسطينيين للهجرة الطوعية.
يمكن البدء من الآن وفورا في إدخال معدات وآلات وجرافات لإزالة الأنقاض، في مختلف مناطق القطاع، ومصر ودول أخرى، لديهم من القدرات والشركات ما يجعلهم يحققون نتائج ملموسة وسريعة في إزالة الأنقاض حتى يتثنى بدء عملية الإعمار.
إذا كانت إدارة ترامب تبحث عن حلول واستعادة الثقة مرة أخرى من شعوب المنطقة، فيمكن لها أن تدعم عقد مؤتمر دولي تشارك فيه مختلف دول العالم والممولين الدوليين والجهات المانحة حول "إعادة إعمار قطاع غزة"، والقاهرة أعلنت من قبل استعدادها لاستضافة هذا المؤتمر، ودول الخليج العربي لن تتأخر في دعم جهود الإعمار.
دعم إدارة ترامب إنهاء الحرب تماما في غزة والبدء في مشروعات إعادة الإعمار، وإحياء مسار السلام والمفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، كلها خطوات ستدعم تصورات وأهداف ترامب في توسيع الاتفاقيات الإبراهيمية خاصة بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، وسستعيد بلا شك الأمن والاستقرار في المنطقة وستوقف دوامة العنف والحروب التي لم ولن تتوقف طالما ظلت القضية الفلسطينية معلقة دون حلول عادلة.
إذا كانت إدارة ترامب جادة في تخفيف حدة الصراع القائم وتجاهل أي تصورات من شأنها "تفجير" وإشعال الشرق الأوسط بأكمله، فعليها أن ينصب تركيزها على إعادة الاعتبار والتقدير لأكثر من 2 مليون فلسطيني في قطاع غزة، قدموا أكثر من 150 ألفا ما بين شهيد وجريح، منهم 30 ألف طفل يتيم فقط الأب والأم، يحتاجون دعم ومساندة الجميع لترميم جراحهم، لا أن يتم مجاراة تل أبيب في ممارسة ضغوط على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأنروا" التي تتحمل إعانة ودعم أكثر من 70% من سكان غزة.
على إدارة ترامب أن تكون على قناعة ويقين أن القوة والآلة العسكرية الإسرائيلية الغاشمة، ودعمها اللامحدود لتل أبيب، لن يحققوا السلام والأمن للإسرائيليين، وأن التعايش الحقيقي وإدماج إسرائيل في المنطقة لن يتحقق دون حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة في دولته المستقلة، فهناك أكثر من 400 مليون عربي شاهدوا إسرائيل وهى تمارس جرائم بشعة وحرب إبادة جماعية ضد شعب أعزل، فأي سلام وأي إدماج وتطبيع سيحدث بعد اتساع رقعة الكراهية والرفض حتى أصبحت شعوب الشرق الأوسط رهينة لأفكار اليمين الديني في إسرائيل والمنطقة.
من الأهمية ألا تتبنى إدارة ترامب أي تصورات من شأنها ربط إنهاء القدرات العسكرية لحماس داخل قطاع غزة، كشرط لإعادة الإعمار، فإسرائيل نفسها بآلاتها العسكرية وبدعم أمريكي غير مسبوق فشلت في تحقيق هذا الهدف، كما أن نتنياهو نفسه ساهم على مدى سنوات في إضعاف السلطة الوطنية وتقوية حماس في غزة، بهدف فصل الضفة عن القطاع لقتل حل الدولتين، وعليه فإن تنحية حماس وإسقاط حكمها في القطاع أصبح أمر واقع، وحتى قادتها أعلنوا أنهم لا يرغبون في إدارة القطاع مرة أخرى، لكن مع ذلك ينبغي على إدارة الرئيس ترامب وهى تدعم جهود عودة السلطة لقطاع غزة، أن تخلق مسارا جديدا للسلام في الشرق الأوسط بين الإسرائيليين والفلسطينيين، مسار ورؤية تعيد إحياء الأمل أن السلام يمكن تحقيقه بالفعل، مع ضرورة الالتزام بالمقررات الدولية وأن تسعى حثيثا لترميم صورتها في الإقليم والعالم كقوة عظمى راعية للسلام وليس طرف مشارك ورئيسي في انتهاك قواعد القانون الدولي.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة