الجميع في الشرق الأوسط وعلى المستوى الدولي مشغولين بصورة مركزة على اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، الذي بدأ تنفيذه من 19 يناير 2025، ويشمل ثلاثة مراحل، مفترض أن تفضي في النهاية إلى وقف دائم لإطلاق النار وإنهاء الحرب العدوانية البربرية التي شنتها إسرائيل على 2.3 مليون فلسطيني لـ 471 يوما، قضت خلالها على كل معالم الحياة في القطاع البالغ مساحته 360 كيلو متر مربع، وأودت بحياة أكثر من 50 ألف وإصابة أكثر من 100 ألف مصاب، وتدمير أكثر من 70 % من البنية التحتية والسكنية، مع بدء صدور تقديرات دولية أن إعادة إعمار غزة واستعادة الحياة للسكان كما كانت قبل هجوم السابع من أكتوبر 2023، تحتاج ما بين 70 إلى 80 مليار دولار، وهو رقم ضخم للغاية، ويحتاج لتضافر كل الجهود الإقليمية والأممية لإزالة أثار هذه الحرب المدمرة.
لكن مع التفاؤل الحذر من إمكانية صمود الاتفاق الجاري، والذي لا يمكن وصفه سوى بأنه "هدنة مؤقتة" أو لحظة لجميع الأطراف لالتقاط الأنفاس، خاصة وأن المرحلة الثانية والثالثة من الاتفاق مقرونة بمفاوضات غير مباشرة بين الطرفين "‘إسرائيل وحماس" من خلال الوسطاء "مصر وقطر والولايات المتحدة الأمريكية، والذين في حال نجحوا في عمل اختراق حول المرحلة الثانية التي سيبدأ التباحث حولها في اليوم 16 للاتفاق، فإنه يمكن وقتها زيادة مؤشرات التفاؤل بإمكانية تحقيق وقف دائم للقتال، والبدء الفعلي في مرحلة التعافي من آثار وتداعيات هذه الحرب.
لكن السؤال الأهم الذي يجب أن يطرح الآن، ما هى عوامل ومحفزات صمود واستمرار اتفاق وقف إطلاق النار الجاري، وتحويله من وقف مؤقت لإطلاق النار إلى وقف دائم، وهو الأمر الذي سيكون مقرونا بعدد من الدوافع والمحددات، يمكن اختصارها في التالي:
1- العامل الرئيسي لنجاح اتفاق وقف إطلاق النار الجاري واستكمال المرحلتين القادمتين، سيعتمد على موقف الإدارة الأمريكية، فاستمرار دعم الرئيس دونالد ترامب للاتفاق عبر مبعوثه للشرق الأوسط ستيف ويتكوف، سيؤدي بالضرورة لنجاح الاتفاق والوصول لوقف نار دائم، في ضوء أن إدارة ترامب هي الوحيدة القادرة على فرض هذا الأمر على نتنياهو، بعدما أظهرت إدارة بايدن السابقة حالة من الضعف أمام نتنياهو وائتلافه الحاكم، وتلاعب نتنياهو مرات عديدة بجو بايدن ومساعديه، عبر التنصل من أي تفاهمات تم الاستقرار عليها للوصول لاتفاق.
2- استمرار الهدنة وتنفيذ باقي مراحل الاتفاق، سيعتمد على أولويات إدارة ترامب سواء الداخلية أو على المسرح الدولي، وعليه قد يعطي نجاح هذا الاتفاق قوة دفع وثقة في قدرة ترامب في إدارة ملفات السياسة الخارجية الأمريكية وما وعد به، مع الإشارة هنا أن شخصية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لن تقبل أن يتم وضعه في مقارنة مع سلفه بايدن، في الظهور في موقف ضعف وعدم القدرة على فرض الإرادة والرغبة الأمريكية على بنيامين نتنياهو.
3- استراتيجية ترامب وسياسته المتوقعة تجاه الشرق الأوسط، حول إضعاف إيران وأذرعها واستكمال اتفاقيات السلام الإبراهيمي بين إسرائيل ودول المنطقة وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، قد يكون دافع قوي لإدارته لإنهاء حرب غزة وإنجاح الاتفاق الجاري بكافة مراحله، مع ضمان بالتأكيد عدم عودة حركة حماس لحكم غزة مرة أخرى، وهو هدف الجميع بلا استثناء متفق عليه، حتى أن حماس نفسها وعلى لسان العديد من قياداتها أعلنوا أنهم لن يحكموا غزة في اليوم التالي.
4- ضمن أحد أهم عوامل صمود الاتفاق الجاري وتنفيذ مراحله الثلاث، ستكون قدرة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالحفاظ على تماسك ائتلافه الحاكم ومنع وزير المالية "بتسلئيل سيموتريتش"، رئيس حزب الصهيونية الدينية، من الانسحاب من الائتلاف، لأن انسحابه سيعني انهيار حكومة نتنياهو وسنكون أمام انتخابات مبكرة، كما سيتم البدء في إجراءات محاكمة نتنياهو على جرائم الفساد وكذلك فتح التحقيق في هجوم السابع من أكتوبر. مع الإشارة هنا، أن سيموتريتش أجل موقفه من الاستمرار في الائتلاف من عدمه بانتهاء المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار ووعود من نتنياهو باستئناف القتال عقب انتهائها، كما أن تصعيد نتنياهو العسكري في الضفة الغربية كان تماشيا مع مواقف سيموتريتش الخاصة بالتصعيد والعمل سريعا على ضم الكتل الاستيطانية في الضفة والحصول على اعتراف ودعم إدارة ترامب لهذه الخطوة.
5- استمرار الضغط الداخلي على نتنياهو لاستكمال مراحل الاتفاق، خاصة أن المرحلة الأولى من الاتفاق تشمل فقط الإفراج عن 33 أسيرا إسرائيليا سواء كانوا أحياء أو جثث، وسيتبقى 68 أسيرا آخر لن يتم الإفراج عنهم إلا بتنفيذ المرحلة الثانية والثالثة، مع الأخذ في الاعتبار أن التقديرات عن عدد الأسرى الإسرائيليين الأحياء لدى الفصائل في غزة يقدر 61 أسيرا.
6- نجاح الهدنة، سيعتمد على استمرار جهود الوسطاء وتحديدا مصر وقطر، في العمل مع إدارة ترامب ومساعديه (مبعوث الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف – وزير الخارجية، ماركو روبيو – مستشار الأمن القومي، مايك والتز)، لاستكمال باقي المراحل، والاختبار الحقيقي لذلك سيكون من اليوم الـ 16 لبدء الهدنة والذي ستبدأ فيه المباحثات والمفاوضات حول تنفيذ المرحلة الثانية، كما أن المبعوث الأمريكي "ستيف ويتكوف" الذي يلقى دعم غير محدود من الرئيس ترامب وأشاد به مرات عديدة لنجاحه في الوصول لهذا الاتفاق، سيزور المنطقة قريبا، لاستكمال جهوده مع الأطراف المعنية حول المرحلة الثانية من الاتفاق.
7- استكمال الاتفاق ونجاحه، سيكون مقرون بحسم شكل اليوم التالي في غزة، ومن سيحكم ويدير القطاع، فطالما لم يحسم هذا الملف حتى الآن، ستظل هناك شكوك لدى جميع الأطراف، وإذا كان الجميع متفق على أن حماس لن تعود لإدارة قطاع غزة مرة أخرى، فإن شكل الهيكل الحكومي أو الجهة الذي ستتولى إدارة المرحلة الانتقالية وتشرف على عمليات ومشروعات إعادة الإعمار، لم يتم التوافق عليها بعد، نظرا لاستمرار الانقسام بين فتح وحماس، ورغم وجود خطوة ورؤية مصرية واضحة لشكل اليوم التالي، لكنها قد تحتاج ممارسة مصر ضغوط أكبر على جميع الأطراف الفلسطينية لتنحية خلافاتهم والتركيز فقط على الوحدة لإنهاء معاناة أكثر من 2 مليون فلسطيني داخل القطاع، في ضوء أيضا حجم المهددات التي تتعرض له القضية الفلسطينية والخطط المعلنة من اليمين الإسرائيلي لتصفية هذه القضية.
8- عدم إعطاء حماس أي ذريعة لنتانياهو للتنصل من الاتفاق الجاري في غزة، خاصة وأن ترامب ومساعديه حذروا حماس من عرقلة تنفيذ الاتفاق، وقد رأينا كيف تعمدت إسرائيل تعطيل عودة سكان غزة من جنوب إلى شمال القطاع لأيام، كضغط منها لتبكير الإفراج عن الأسيرة الإسرائيلية "أربيل يهود"، وهو ما دفع الفصائل للتفاهم حوله في ضوء أن السماح للسكان العودة لمخيمات الشمال المدمرة وتفكيك إسرائيل لممر "نتساريم" يخدم بالتأكيد على هدف تفكيك التواجد العسكري الإسرائيلي في غزة والذي سيليه وفقا لمراحل الاتفاق انسحاب إسرائيل بشكل كامل من القطاع.
9- ضمانات واضحة من ترامب لنتنياهو بالاعتراف بسيادة إسرائيل على كامل الكتل الاستيطانية في المنطقة "ج" والاعتراف بضم غور الأردن لإسرائيل، قد يمثل فرصة لنتنياهو لضمان ائتلافه الحاكم وعدم انسحاب سيموتريتش، وبالتالي تمرير اتفاق وقف إطلاق النار في غزة وتنفيذ كافة مراحله، لكن لا يجب إغفال أن ترامب الذي يوصف بأن سياساته غير متوقعة، قد تكون في خططه العمل على تفكيك حكومة نتنياهو وإجراء انتخابات مبكرة في إسرائيل، في ضوء أن استراتيجية ترامب لاستكمال الاتفاقيات الإبراهيمية خاصة مع السعودية قد يعوقها استمرار وجود نتنياهو على رأس السلطة في إسرائيل، وهو المتهم بجرائم حرب وإبادة جماعية أمام الجنائية الدولية، وعليه قد يكون الخيار الأمثل لترامب هو وجود قيادة إسرائيلية جديدة.
10- تنفيذ إسرائيل كل ما تتضمنه المرحلة الأولى "42 يوما" من اشتراطات خاصة حول الانتشار العسكري داخل المدن والمناطق السكنية وتفكيك ممر نتساريم (اليوم 22) والانسحاب لحدود القطاع (المنطقة العازلة من 700 إلى 1000 متر)، ومع الخسائر العسكرية الكبيرة في المعدات والآليات والضحايا من الجنود (400 قتيل) خلال هذه الحرب، ومع موقف المعارضة والمؤسسة الأمنية الداعم لهذا الاتفاق، ومع الضغط الأمريكي من إدارة ترامب، قد تكون كل التصريحات والشكوك على قدرة الاتفاق الحالي على الصمود مجرد تصريحات للاستهلاك الإعلامي ولأهداف سياسية داخلية إسرائيلية، خاصة الصادرة عن حكومة نتنياهو.
11- أن عودة نتنياهو للقتال والحرب في محاولة لتحقيق أهدافه السابقة التي فشل في تحقيقيها على مدى 15 شهرا، وعلى رأسها القضاء تماما على القدرات العسكرية لحركة حماس، وتحرير الرهائن بالقوة، لم تعد ذات معنى، خاصة وأن الواقع الميداني في غزة يعطي إجابات مختلفة، فإن كانت إسرائيل نجحت في إضعاف القدرات العسكرية لحماس، فإن الحركة لا تزال فاعلة على الأرض وهو ما كشفته معارك مخيمات شمال قطاع غزة والتي تكبدت فيها إسرائيل خسائر كبيرة في المعدات والجنود، كما أن الحركة أعادت ترميم هياكلها وكتائبها العسكرية، عبر عمليات تجنيد جديدة عوضت به كل ما فقدته من مقاتليها خلال شهور الحرب، وهو الأمر الذي أكد عليه وزير الخارجية الأمريكي السابق أنتوني بلينكن، قبل رحيله عن المنصب بأيام، كما أن إسرائيل وفقا لدراسات أمريكية وغربية ووفقا لتقديرات المخابرات المركزية الأمريكية لم تنجح في تحييد "أنفاق غزة" ولا يزال أكثر من 65 % من هذه الأنفاق يعمل، كما أن الحركة لم تفقد سوى 30 % فقط من مقاتليها، وعليه يبقى هدف نتنياهو العودة للقتال لتحقيق هدف القضاء على حماس، نوع من العبث.
12- أن إسرائيل إن كانت غيرت من عقيدتها القتالية، واستطاعت خوض حرب متواصلة لـ 15 شهرا متواصلة على جبهات عديدة، وهى الأطوال في تاريخها منذ تأسيسها عام 1948، لكن لا يمكن إغفال حجم الخسائر التي تكبدتها على المستوى الاقتصادي والعسكري والأمني والسياسي، وهى خسائر تدعم بالتأكيد صمود وقف إطلاق النار وتنفيذ مراحله الثلاث.
تبقى عوامل ودوافع صمود الاتفاق الجاري عديدة، وهو ما يعطي الأمل والتفاؤل بإمكانية الوصول لوقف مستدام للقتال والأعمال القتالية داخل قطاع غزة، والشروع بعدها في مرحلة التعافي ومشروعات إعادة الإعمار لاستعادة الحياة مرة أخرى لكافة سكانه وتخفيف معاناتهم وآلامهم. لكن مع هذا التفاؤل، علينا ألا نتخلى عن حذرنا من إمكانية حدوث أي طارىء، وخطوات غير متوقعة من بنيامين نتنياهو، الذي لا يعبأ بأي شىء ولا حتى بمصالح إسرائيل، ولا يعنيه سوى حماية مستقبله السياسي، ولو شعر في أي لحظة أن مسار الهدوء المستدام سيفضي في النهاية إلى بدء محاكمته داخليا على جرائمة في تهم الفساد، فلن يتواني عن إيجاد مخارج لخلط الأوراق وتفجير وإشعال مناطق أخرى بغية الاستمرار في الحكم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة