غادة لبيب

رأس البر ولعب الكرة فى الشارع

الثلاثاء، 04 يوليو 2023 01:54 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كنت في زيارة عمل إلى محافظة دمياط، وقضيت ليلة كاملة في مدينة رأس البر الساحرة، التي عرفت قديمًا قبل الفتح العربي باسم "جيزة دمياط"؛ أي "ناحية دمياط"، واكتسبت اسمها الحالي "رأس البر"؛ بسبب موقعها على خريطة مصر؛ حيث تعد أول مدينة مصرية تطل على ساحل البحر المتوسط، وتشكل أراضيها لسانًا من اليابسة داخل الماء، تم إنشاؤه لحماية الساحل من التآكل عامًا بعد عام. وتأخذ المدينة شكل المثلث ،رأسه منطقة اللسان ، وضلعه الشرقي نهر النيل ، والغربي البحر المتوسط ، وقاعدته القناة الملاحية لميناء دمياط.
 
وعندما زارها المؤرخ المصري الكبير المقريزي في النصف الأول من القرن التاسع الهجري وصف الكثير من معالمها في كتابه الخطط، ووصفها بـ "أحسن بلاد الله منظرًا"، بما زاره من معالمها "كالبساتين ومرج البحرين والبرزخ والشواطئ، وجوها ورياحها التي تطرد الهم والأسى، وسمائها التي كالبلور، وشاطئها الذي يعيد شباب الشيب في عيشه الرغد". ومدحها الأديب المؤرخ محمد القادري الجوهري الدمياطي بأنها "الجنة الصغرى، والمدينة الخضراء، وتراب تربتها من غراس الجنة". وتوقع العالم الألماني "كوخ" في تقرير كتبه أثناء زيارته لمصر للإسهام في مواجهة الكوليرا عام 1883 أن "مصيف رأس البر قد يصبح يومًا ملك المصايف وأشهرها بموقعه الجميل وهوائه النقي الجاف وشواطئه الذهبية وبُعده عن الضوضاء".
 
كما ميز الله المدينة مثلما ذهب بعض المفسرين بظاهرة فريدة وثقها القرآن الكريم في سورة الرحمن بقوله تعالى: ﴿مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان﴾. ومنها سماها البعض بـ "مرج البحرين"؛ فهذه المدينة الساحرة ذات المناخ المعتدل الجاف، يلتقي نهر النيل الخالد بمياهه العذبة بالبحر المتوسط بمياهه المالحة!! يا لها من معجزة ربانية .. فعند الإبحار بزورق وعند خط الالتحام تضع يدك اليمنى مثلًا؛ فتجد المياه عذبة، واليد اليسري تجدها مِلحة!!.
 
زرت الفنار الذي يرشد السفن ليلًا ويشهد على روعة المكان وجمال الطبيعة، وصعدت السلم حتى أعلى درجاته "يا له من منظر مبدع وخلاب". وخطفت أنظاري في فندق الإقامة خلال زيارتي صور فوتوغرافية لكوكب الشرق أم كلثوم وأسمهان ووردة الجزائرية .. وغيرهم. فقد عُرفت رأس البر بعروس المصايف، وظلت لسنوات طويلة مقصدًا للملوك والفنانين والأدباء قديمًا؛ فقد زارها الملك فاروق الأول، في 13 أغسطس 1941، مستقلًّا القطار الملكي ثم السيارة ثم اللنش الذي عبر به النيل. وزاد بريق المدينة وتطورها حتى أصبحت من أهم المصايف المصرية.
 
وقد بدأ تاريخ المصيف مع مستهل القرن التاسع عشر حينما تزايد إقبال صيادي الأسماك والسمان بقواربهم وشباكهم وترددهم على تلك الشواطئ، كما أن مشايخ الطرق الصوفية وأتباعهم بدمياط بعد انتهاء احتفالاتهم بالموالد يسيرون نحو الشمال مع النيل إلى المكان المعروف حاليًّا "الجربي"، بما يتميز به من هدوء وجمال يبعث في النفس روعة التأمل وطمأنينة التعبد. وأصبح مصيف رأس البر مقصدًا للطبقة الأرستقراطية منذ العشرينيات من القرن العشرين، خاصة مع صعوبة سفر الكثيرين إلى الخارج لظروف الحربين العالمية الأولى والثانية، فاشتد الإقبال على رأس البر فانتعشت حالة المصيف الاقتصادية، وازداد الاهتمام بتطويره، وتطورت صناعة أبواب العشش ونوافذها، وأصبحت من الخشب بعد أن كانت تصنع من الأكياب وتفتح وتقفل بجذب الحبل.
 
ومع تزايد الإقبال على المصيف، اهتمت إدارته بإصلاح الطريق الزراعي الموصل إليه من الجهة الشرقية، وكان الطريق الوحيد للمدينة بعد أن ظلت المراكب لسنوات طويلة هي السبيل الوحيد للوصول إلى المصيف عن طريق النيل. وفي عام 1930، اُفتتح كوبري دمياط المعدني الذي ربط بين ضفتي النيل وسهل الوصول إلى المصيف بالسيارات. كما أطلقت مصر للطيران، في عام 1941، نزهات جوية فوق رأس البر بمبلغ 25 قرشًا للراكب للترويح عن مصطافي المدينة.
 
ولم تتوقف مشروعات تطوير رأس البر؛ ففي عام 1944، وضع مشروع جديد لتخطيط رأس البر لتتناسب مع أعداد رواد المصيف على مختلف طبقاتهم وطباعهم. واستمر تطوير المصيف على مدار السنوات المتتالية؛ للوصول به إلى مستوى سياحي مرموق جدير بموقعه الفريد؛ حيث بدأ أصحاب العشش في تحويلها إلي مبانٍ خرسانية، ثم تحولت العشش إلى فيلات، ولكنها مازالت تحتفظ باسمها (عشش)، كما وضعت الدولة مدينة رأس البر ضمن المرحلة العاجلة بمشروع التطوير العمراني لعواصم المحافظات والمدن الكبرى.
 
وظلت رأس البر تتميز بسمات متفردة؛ تجد فيها إحساسًا بصفاء الروح وانطلاقها، وجو مصري من الألفة والتصرفات التلقائية، يدفعك للجري واللعب، فوجدت نفسي ألعب الكرة في الشارع مع فارس وسيف، وهما طفلان جاءا مع أسرتهما للتمتع بالمصيف. وأثناء جولتي بشوارع المدينة جذب انتباهي شهرة أهالي رأس البر ومهارتهم في صناعة الحلويات الشرقية؛ فتجد رواد المصيف حريصين على تناول الفطائر الحلوة وغيرها والمشبك والهريسة والبسبوسة والبسيمة .. وغيرها من الحلويات الدمياطية التي تشتهر بها العديد من المحلات، والحرص على شراء الحلويات والاحتفاظ بها قبل مغادرة المصيف؛ سواء لتناولها أم لتقديمها هدايا للأقارب والأصدقاء.
 
إنها رأس البر .. "درة ربانية" من المولى - عز وجل- حبا مصرنا الغالية بها بين كثير من النعم. فليس بعجيب أن تجذب الملوك والأغنياء والمشاهير والأجانب بل والمواطنين من مختلف الفئات لقضاء إجازاتهم. فمن زارها تمنى على الله كما تمنى المقريزي في وصفه لها أن "يهيئ الله عودة إليها في غير بلوى ولا جهد"؛ لأن النفس لا تشبع من جمالها.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة