خلف الباب المغلق.. حكايات التعب والشفاء في غرفة الكيماوي

الجمعة، 28 يوليو 2023 04:00 م
خلف الباب المغلق.. حكايات التعب والشفاء في غرفة الكيماوي صورة أرشيفية
منة الله حمدى - نقلاً عن العدد الورقي

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تدق الآن الساعة الثامنة صباحًا، يدور المفتاح في باب الغرفة، وتدخل منه سيدة أربعينية ممتلئة الجسم، تمشي خطوتين ثم تضع حقيبتها على الكرسي الشازلونج الأول الذي تتراص بجانبه العديد من الكراسي الممتدة حتى نهاية الغرفة. يستقر يمين الباب عشرة كراسى من هذا النوع، وعلى الشمال خمسة أسرّة مغطاه بالملاءات والوسائد البيضاء، وبجوار كل منها حامل مطلى باللون الأبيض.
 
تتفقد السيدة الأربعينية الغرفة بعينيها الواسعتين، لتكتشف ما ينقصها من أغطية أو وسائد، فهى المشرفة على نظافة المكان وإتمام الاستعدادات لاستقبال ضيوفه. تدور عقارب الساعة بسرعة، وسرعان ما تمر 30 دقيقة، ما إن تدخل أول سيدة وتهم بالجلوس على أول كرسي الذى تضع عليه "أم رضوى" المشرفة حقيبتها حتى تصيح منبهة "الكرسي محجوز.. فى واحدة جت وسابت شنطتها وراحت الحمام" فتجلس الوافدة الجديدة على كرسي آخر. 
 
تتهافت المريضات على الكرسي الشازلونج كونه كبيرًا، واسع، مبطن، مريح للغاية، ولا يفضلن الأسرّة على الرغم أنها أكبر، إلا أن مستوى ارتفاعها عن الأرض يتعبهن في الصعود والنزول، خاصة أن كلاً منهن تذهب إلى المرحاض أكثر من مرة خلال اليوم.
 
وقبل دقات الساعة التاسعة بدقائق تدخل سيدة مرتدية بدلة باللون السماوى الفاتح، تلقي التحية على الموجودات بصوت مشرق: "صباح الخير ياحلويات، عاملين إيه وحشتونى جاهزين؟" فيأتي ردهن في صوت واحد "صباح النور يامس يالا بينا، عايزين نمشي بدرى" فترد مس لبنى بشكل عملي، حيث تغلق الباب لتبدأ بعدها رحلة اليوم للعلاج.
 
العدد الورقي
العدد الورقي
 
وعلى مدار الأيام تتبادل مئات السيدات مواقعها على الكراسي الشازلونج والأسرّة، يقاتلن للبقاء من أجل دقيقة حياة مع الأحبة، تسمع إحداهن تقول بصوت خافت مرتعش وظلال من القلق تغشي وجهها " دى أول جلسة كيماوى ليا، وأنا خايفة" تلتفت إليها المريضة المجاورة لها تحاول طمأنتها" ماتخفيش هتتعودى، أصعب حاجة إبرة الكانيولا، والبنات هنا إيديهم خفيفة مش هتوجعك"، فتبتسم الأخرى وتسألها" إنت بقالك كتثير بتاخدى كيماوى؟" ترد "بقالى أكثر من 5 سنين مريضة سرطان، كنت في المرحلة الثانوية وشعرت ببعض الآلام في جسمى وصداع شديد في راسى، أخدت مسكنات كتير ومافيش فائدة، بدأ الألم يزيد مصحوب بضعف في النظر شديد، رحت مستشفى القصر العينى، وتم الكشف وعملت الأشعة المطلوبة، وطلع عندى ورم  في المخ خلف مركز الإبصار، كانت صدمة كبيرة وخاصة لأهالى لأنهم كبار في السن". هكذا تذكرت "نبوية" بداية اشتباكها مع المرض والابتسامة لم تفارق وجهها.
 
 
"نبوية طاهر" في العقد الثالث من عمرها من الأقاليم تأتى إلى العاصمة مرة كل شهر للحصول على جرعة الكيماوي، بعد ما أكد لها الطبيب أنها لا يمكن إجراء جراحة استئصال للورم، فهناك خطورة على حياتها، وعلى الرغم من أنها تحصل على الجرعات بانتظام إلا أن نظرها سرعان ما ضعف، وأضحت ما ترى سوى ضوء رفيع يُنير دربها. وتحكي بابتسامة راضية: "رغم الآلام اللى بحسها بعد كل جلسة من صداع ووجع في العظم والمفاصل وقيء شديد، إلا أن الوقت اللي بقضيه جوة الأوضة دى بيهون عليا كتير، كلنا هنا حاسين بوجع بعض وعدونا واحد" وبنبرة مشبعة بالحنان طمأنت الوافدة الجديدة: "ماتخافيش هتبسطى معانا". 
 
يرتفع صوت "لبنى" الممرضة والمسئولة عن تركيب الكانيولا والمحاليل وقياس الضغط للمريضات، والاهتمام بهن مُدة دخولهن للغرفة وحتى خروجهن منها، قائلة" أخدتهم دواء الضغط؟، واللى ما فطرتش تفطر على ما استلم الدوا، محتاجين حاجة ياحلويات؟" فتعلوا ضحكات المريضات وتقول كل منهن على حدة "شكرًا يالبنى، أو شكرًا ياعسل".
 
تلقي العلاج الكيماوي
تلقي العلاج الكيماوي
 
نسمات من الرحمة والألفة مصحوبة بالعمل الجاد والشاق طيلة اليوم تملأ المكان، "لبنى" واحدة من ثلاثة مثلها يتقاسمون الأدوار، فهناك أيضًا نرى "نادية" بزي التمريض فاتح اللون والقفاز الشفاف، لا تفارق الابتسامة وجهها، وفي يدها مجموعة من الأساور الجلدية وبداخل كل إسورة ورقة مكتوب عليها اسم المريضة، تدور "نادية" عليهن لتركب لكل منهن إسورتها في معصم يدها، وحال المريضات هو السباق بالنداء عليها كي تقوم بالضحك والهزاز معهن.
 
يدق الباب فتسرع إليه  "نهلة " وهي مرافقة تأتى مع حماتها كل شهر لتحصل على جرعتها، فتوارب الباب لتجد خلفه الأستاذ محمود زوج السيدة "فايزة "حاملًا شنطة تضم قارورة ماء وبعض من شطائر الجبنة والحلاوة، وعينيه تفتش عن زوجته عله يظفر بنظرة واحدة تطمئنه عليها. يوصي نهلة "إديها لمدام فايزة عشان تفطر" تأخذ "نهلة" الشنطة وتسرع بها إلى "فايزة" فتأخذها منها مطمئنة، فزوجها لا يفارقها معركتها ضد السرطان منذ ثلاث سنوات، كانت خائفة، ضعيفة، محبطة، خاصة حين سَمعت إشاعة ما تَدّعى إذا قاومت السرطان بأي سلاح علاجي سينتشر في الجسد كله.
 
 تحكى "فايزة" قصتها لإحدى مرافقات المرضى الجالسة على حافة سريرها بساقين ممدودتين وأمامها الحامل معلق عليه قوارير تنزل منها قطرات الكيماوى تسير في جهاز الوريد لتدخل منه إلى وريد "فايزة" تهبها الحياة وتسلبها الحيوية والجمال وتتركها تعبة ومنهكة مثلها مثل كل من يسري هذا الدواء القاسي في دمه.
 
تقول فايزة "حسيت إنى دخلت ضبابة سودة، شميت ريحة الموت، لفيت على الدكاترة، واستأصلت الرحم لكن بوجود حبايبي زوجى وولادى قويت وقولت يا أنا يا السرطان، زوجى عملى ورقي التأمينى وجيت المستشفى هنا، عشان أخد الكيماوى، تعباه معايا بيفضل مستنيني بره في الكافتريا خمس ساعات لما أخلص وأما أروح مايسبنيش".
أسمع صوت خطواتها الثقيلة وصوتها الأجش الغليظ تنادى على زميلتها لمساعدتها؛ ثم أرى مقبض الباب يتحرك لتدخل منه "أم رضوى" تحمل سبتًا به وجبات للمرضى، كل وجبة مكونة من علبة جبنة بيضاء صغيرة، ثمرة طماطم، ثمرة فاكهة، علبة زبادي، كيس سكر، فتلة شاى، وأثنان من خبز الكيزر" وتقوم بتوزيع الوجبات على المرضى وهى تقول "ألف سلامة".
 
من إن تنتهى "أم رضوى " من توزيع الوجبة اليومية على المرضي حتى تدخل مس إيمان بزيها الأزرق، قهى المسئولة عن تثقيف المريضات صحيًا وخاصة فيما يتعلق بالتغذية، تشرح لهن نوعية الغذاء الصحي المفروض أن يتناوله مريض السرطان، وتتبادل الأسئلة التوعوية لهن، ثم انصرفت بعد أن ضافت اسم المريضة الجديدة إلى الجروب الواتس آب الذى أنشأته لتكون على تواصل مع المريضات طوال 24 ساعة.
الهدوء يسود الغرفة، الممرضات يقمنا بعملهن، وكل شيء يسير على ما يرام، الساعة الثانية ظهرًا تدخل "ماجد عياد" غرفة الكيماوي، تلقى السلام على الجميع فالكل يعرفها ممرضات وبعض المرضى اللآتى يتصادف موعد جرعتها معهن، "أهلا يا جوجو هجهزلك الحقنة حالا ارتاحى" تسرع لبنى لتجهيز الدواء.
 
محاربة السرطان
محاربة السرطان
على الرغم من وجهها الشحوب وجفون عينها المنتفخة والضعف الشديد الذى يبدوا عليها، إلا أنها حين تدخل "جوجو" الغرفة كما تسميها الممرضات، تجد نظرات الجميع تلتف حولها؛ فإنها جميلة حقًا، لونها خمري صافى، عينيها سودتان، وجهها جذاب، ترتدى ملابس أنيقة ألوانها متناسقة، الكاب الذى تضعه على رأسها لتخفى تساقط شعرها يزيدها جمالا وجاذبية، ملامح وجهها البريئة تشعرك أنها تحمل حزن وألم أكبر من آلام المرض اللعين وسٌم علاجه "الكيماوي".
 
أسرعتُ وأحضرت لها كرسي كي ترتاح عليه من عناء الطريق فالأسِرّة والكراسي الشازلونج قد امتلأت، جَلستُ أنا على حافة السرير الذى بجوارها تعارفنا وتجاذبنا أطراف الحديث وسألتني عن نفسي وعن مريضتي، قلت لها "أنا نعمة مرافقة لولدتي مدام أمنة بتاخذ علاج الكمياوى من سنتين تقريبًا، كانت تعانى من ورم في الرجل وألم في العضم، وصعوبة في التنفس روحنا لدكتور القلب طلب أشعة على البطن كلها، وظهر فيها الورم جنب الرحم، عملت استئصال للورم وكل اللى جنبه، دلوقتى بتاخد الكيماوى ومتابعة أشعة المسح الذرى".
 
 وقلت لها: أشعر أنك تحملين حزن أصعب من ألم المرض فقال: "الأصعب من الألم المرض هو مرض نفوس البشر فقد تنصل أقرب الأقربين منى بسبب مرض ابتلاني الله به، أنا مريضة منذ عشرة سنوات في البداية كان في الثدى واستئصلته، وأخذت علاج كيماوى، بعد بستين ظهر في الثدى الأخر واستئصلته، ودلوقتى في الرئتين، بعد وفاة أمى وأبويا أخواتى نسيونى ماحدش بيسأل عليا إلا في المناسبات، كنت بشتغل مدرسة وبعد مرضى قدمت على إجازة بدون مرتب، دلوقتى أنا عايشة لوحدى".
 
تقطع" لبنى" الحديث قائلة" يالا ياجوجو أجمدى كده عشان تخدى الحقنة" وبصوت مرتفع وضحكة جذابة تقول "صقفة كبيرة ياحلويات لجوجو" يتزامن التصفيق دخول سن السرنجة المحملة بالدواء في بطن "ماجدة" ولا يقف إلا بعد خروجها وإلقائها في السلة المهملات الطبية".
الدواء مادة لزجة ثقيلة الكثافة يصعب مرورها في سن السرنجة، يصاحب دخولها آلام شديدة قد تخطف القلب والروح، واستطردت "ماجدة" بعد حصولها على الحقنة قائلة: أنتظر الموت في كل لحظة أضع رأسي فيها على وسادتى، وحين أستيقظ أشكر الرب على نعمه.
 
ربما يكون ما يجرى داخل الغرفة خلال اليوم أحداث متشابهة، ولكنها ذات عِبر عميقة شديدة التأثر، داخل غرفة الكيماوى تجد مريضات كلًا منهن تواسي الأخرى، تتبادلن  كلمات النصائح والتشجيع، تسمع كل منهن قصص الأخريات فتحمد الله على ابتلاءه واختباره لها، أما ملكات الرحمة الممرضات تقوم بعملها بمنتهى الدقة والجدية والبساطة والبشاشة، ومرافقات تتبادل خدمة المريضات من تقديم الماء للشرب والعصائر وملاحظة انتهاء المحلول من القوارير، مساعدة احدى المريضات في الوصول إلى المرحاض.
 
على الرغم من كثرة سماع آهات الآلام من شدتها، إلا أنها مصاحبة دعوات بالشفاء للحاضرين وغيرهم بظهر الغيب، هذا ما يحدث داخل غرفة الكيماوى وخلف بابها المغلق.
 









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة