يربط كثيرون من زملائى الإعلاميين والمثقفين والكتاب بين وجود محطة تليفزيونية مصرية ناطقة باللغة الإنجليزية، وبين تصحيح صورة مصر فى الإعلام الغربى، وقدرة القاهرة على مخاطبة الرأى العام العالمى، وكأنه بدون هذه المحطة التليفزيونية لن ننجح فى حمل رسالتنا إلى الدنيا، ولن نتمكن من تغيير الصور السلبية عن بلادنا، أو مقاومة الدعايات الموجهة ضد مشروعنا الوطنى التنموى، وشرح وجهات نظرنا للمشاهدين والقراء ودوائر التأثير الدولية.
الحقيقة أنا أختلف مع هذا الاعتقاد جملة وتفصيلًا..
والحقيقة أننى أشعر أن هذا الارتباط الشرطى المزعوم بين وجود محطة تليفزيونية دولية، وبين التأثير الدولى لمصر، هو ارتباط واهم، وربما أيضًا ربط كسول يعتمد على الأدوات والتمويلات والتكلفة، أكثر مما يعتمد على الأفكار، والرؤية، والمنطق، والفهم الحقيقى للغرب الذى نتصور أننا سنؤثر فيه بمحطة إخبارية جديدة.
لا أعترض هنا على وجود محطة تليفزيونية تعمل بمهنية واحتراف من الأساس، الاعتراض عندى هو على هذا الربط الشرطى، بين وجود المحطة وتأثير مصر فى العالم، فمن غير المتوقع أن نطلق محطة تليفزيونية فيتسابق الناس على الفور فى تحويل الريموت كونترول إليها، ويجددون نواياهم، ويغسلون ماضى الشائعات القبيحة، ليقولوا فى نفس واحد «هيا بنا نصدق مصر»، هذا التصور غير دقيق، وغير واقعى، وغير منطقى، وإطلاق محطة بنية تصحيح الصورة يصنفها من اليوم الأول باعتبارها محطة موجهة، وتجارب التليفزيونات والإذاعات الموجهة لم تحقق تأثيرًا فاعلًا على أرض الواقع.
خذ مثلًا قناة «الحرة» وهى قناة ممولة بالكامل من الحكومة الأمريكية، وتصدر بعدة لغات، قل لى أنت، هل كان وجود قناة الحرة سببًا فى تغيير صورة أمريكا؟! أو فى تصحيح مفاهيم عن الحرب فى أفغانستان أو العراق؟! وهل نما إلى علمك يومًا أن المواطنين العرب ينتظرون تصحيح الصورة، ومعرفة الأخبار الحقيقية من قناة الحرة؟
الإجابة سهلة.. «لأ طبعًا» لم تحقق الحرة ما كان يحلم به مؤسسو هذه القناة وممولوها وعرابوها فى الداخل وفى الخارج، بل على العكس، ظلت الحرة واهنة الأثر، محدودة المشاهدة، إذ يعرف كل من يصادف بث هذه المحطة على الأقمار الصناعية المختلفة أن هذه القناة الصادرة باللغة العربية «قناة موجهة بنوايا سياسية مسبقة، لم تكن نشأتها وفق معايير مهنية إخبارية من الأساس».
الأمثلة هنا متعددة الفرق كبير بين أن تؤسس قناة تليفزيونية لخدمة الناس، وتقديم وجبة مهنية جادة وصادقة، ثم تستخدم هذه المصداقية فى محاربة التضليل الموجه ضدك، وبين أن تنشئ القناة من الأساس على معايير سياسية، ولهدف دفاعى، أى قناة موجهة، ضد قنوات أخرى موجهة، الخسارة هنا محققة للجميع.
فى تقديرى المتواضع.. أننا لسنا فى حاجة إلى محطة تليفزيونية لمخاطبة العالم، بل نحن فى حاجة إلى أفكار نوعية نفرضها على تليفزيونات العالم.
نحن نستطيع أن نؤثر فى الصورة الذهنية عن مصر، ونرد على كل الشائعات، ونحارب كل أدوات التضليل، من خلال نفس المنصات الإعلامية العالمية التى يحاربنا «الآخرون» عبرها، فقط لو أحسنا طرق التفكير والعرض، وابتكرنا أدوات جديدة فى مخاطبة هذه المنصات الإعلامية.
أذكرك فقط بأن دونالد ترامب يستخدم «تويتر» ليتحدث مباشرة مع الناس، ويحارب من خلاله الإعلام المناهض لإدارته الصاخبة، ولم يفكر ترامب رغم قدرته على ذلك فى أن ينشئ محطة لمواجهة CNN، أو يؤسس لصحيفة يحارب من خلالها خصومه فى نيويورك تايمز.. الفكرة أولًا.
أذكرك أيضًا بأن الإيرانيين هم أكثر من يتحدثون مع القنوات التليفزيونية الأمريكية، رؤساء إيران مثلًا هم أكثر الرؤساء ظهورًا فى برنامج «كريسيتيان أمانبور» على شبكة CNN، الرئيس الإيرانى حسن روحانى رد على ترامب بعد دقائق فقط من تهديده بإلغاء الاتفاق النووى فى حوار مع أمانبور خاطب من خلاله المجتمع الأمريكى مباشرة، مع قناة تحظى بانتشار ومصداقية لملايين المواطنين فى الولايات المتحدة.
وجهة نظر جمهورية الصين الشعبية فى القضايا الدولية مسموعة فى الداخل الأمريكى، وفى الدوائر الأوروبية دون أن تعتمد الصين على قنواتها الناطقة بالإنجليزية لتصحيح صورتها، أو عرض وجهات نظرها الرسمية، وفى الحرب التجارية الأخيرة بخصوص الرسوم التى فرضها ترامب على الصلب والألمنيوم، تكلم المسؤولون الصينيون للإعلام الأمريكى وللمنصات التليفزيونية الدولية أكثر مما تكلم ترامب نفسه.
الفكرة هى الأساس.
القدرة على فهم لغة الخطاب القوية والمنطقية هى نقطة الارتكاز.
شخص المتحدث من جانبنا، وطبيعة الرسالة هما مفتاح الوصول إلى الرأى العام العالمى.
لو كان لى أن أنصح لقلت، استثمروا فى كوادر بشرية، وفى أفكار قوية، أكثر من الاستثمار فى محطات موجهة باستثمارات كبيرة قد لا تحقق الغاية المرجوة، وتنتهى كما انتهت قناة الحرة.
بلادى من وراء القصد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة