كلما قرأنا لكاتب أو كاتبة استطاع بأدبه أن يحقق شهرة عالمية، زادت رغبتنا فى معرفة الكثير عن بداية وقوعه فى غواية القراءة، ومن ثم القراءة، ومن هنا فإننا دائما ما نقارن بين هذه البداية، وحالنا نحن القراء، لنصل فى النهاية إلى نتيجة مفادها، أن الإصرار على ممارسة فعل القراءة والكتابة، هو ما جعلنا نتعرف على هذا الكاتب أو الكاتبة.
فى كتاب "حياة الكتابة"، وهو مجموعة من المقالات المترجمة عن الكتابة، أعده وترجمه عبد الله الزماى، والصادر عن دار مسكيليانى للنشر، فى تونس، والصادر فى طبعته الأولى، عام 2018، تتحدث الكاتبة التركية إليف شافاق، عن بداية وقوعها أسيرة فى أرض القصص، كما وصفت عالم القراءة الذى كانت تركض إليه دوما.
بداية من طفولتها، وإحساسها بالوحدة والحزن، ورتابة الحياة اليومية، وكيف دخلت عالم أرض القصص بنوع من الشجاعة الفريدة، شجاعة لا يتحلى بها سوى عديمى الخبرة أو الجهلاء أو كليهما، فوجدت الطفلة الخجولة الانطوائية نفسها فى هذا العالم الإبداع تهرول إليه دوما، هربا بيتها فى حى مسلم ذى طابع أبوى محافظ.
"انظرى ماذا اشتريت لك".. هكذا أهدتها أمها دفترا فيروزى اللون ذات يوم، بعدما رأت ابنتها الوحيدة تعيش بين الكت ليل لنهار.. "مفكرات.. شخصية لك، كى تكتبى فيها كل يوم".. "وماذا عساى أكتب؟".. صمتت أمها قليلا أمام سؤالها لتجيبها: "اكتبى عن أيامك، أفكارك، لا أعرف، دونى كل ما تشعرين به وكل ما تفكرين فيه فحسب".
لم تكن إليف شافاق مهتمة بتفاصيل حياتها لتدونها فى أول مفكرة لها، كانت مهتمة بعالم أرض القصص، وبالحيوانات رفقتها التى وجدتها هناك، ولهذا بدأت فى التدوين، تدوين حيوات أناس لم يكن لهم وجود فى الأساس، تدوين أحداث لم تقع، ومن دون أن تدرى عبرت الطفلة الخجولة الانطوائية الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال.
قرأت إليف شافاق بنهم شديد، قرأت بلا هدى أو مخطط أو نموذج يحتذى به، كل ما كانت تفعله، أنها تقرأ ما تجده، كانت ترى بجوار سرير جدتها كتاب تفسير الأحلام، وكانت مئات المفردات تذكرها بالكاتب الأرجنتينى خورخى لويس بورخيس، والذى يعد أحد أهم كتاب القرن العشرين، فأحبته.
وحينما التحقت بالمدرسة، تعرفت على الروائى الإنجليزى تشارلز ديكنز، والصدفة وحدها جعلت الكتاب يجد طريقه إليها، فهو خاص بالصف الخامس، وما كان له أن يوجد فى مكتبة منزلها الصغير، إلا لأنه مقرر عليها فى المدرسة.
أحب إليف شافاق ولا تزال تذكر "قصة مدينتين"، تلك الرواية التى فتنتها، كانت مختلفة عن أى شىء عرفته من قبل، تلك القصة - كما تقول - التى لا تمت لحياتها بصلة مخصوصة، ولكنها وثيقة الصلة بالحياة عموما، ومن ثم بحياتها.
ظلت إليف شافاق تقرأ مؤلفات تشارلز ديكنز، فصار قرينا لها، قرينا لطفلة تعيش فى أنقرة، فى أواخر السبعينيات، حتى اكتشفت الكاتب الكولومبى جابرييل جارسيا ماركيز، وشعرت بالنشوة، لقد جعل "ماركيز" الماء يتحدث، والأنهار تغير مجراها، جعل قصص جدتها وحكاياتها موضع ترحيب، وعلمها كيف يمكن أن يمتد جسر بين قصص جدتها وتفسير الأحلام وكتابات ديكينز والكتب الأخرى التى كانت تقوم باستعارتها من المكتبة، بل وأفهمها الكيفية التى تمضى بها على الجسر جيئة وذهابا بين الثقافة المكتوبة والثقافة المحكية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة