علا رضوان

ماذا يفعل المخرج حين لا يصرخ "أكشن"؟

الثلاثاء، 30 سبتمبر 2025 08:00 م


كثيرا ما يُختزل دور المخرج في تلك الكلمة الصارخة التي نسمعها في كواليس الأفلام: "أكشن!"، صورة نمطية لرجل يمسك بمكبر صوت، يدير فريقا ضخما، ويتخذ قرارات تقنية بحتة تتعلق بزوايا الكاميرا وحركة الممثلين، لكنني أعتقد أن هذه الصورة، على الرغم من صحتها الظاهرية، تخفي جوهر الحكاية، أن تكون مخرجا، بعيدا عن ضجيج المعدات، هو حالة من حالات الوجود، هو أن تكون بمثابة الروح التي تسري في جسد الفيلم.

المخرج الحقيقي ليس تقنيا بالدرجة الأولى، بل هو فيلسوف صغير، شاعر بصري، وعالم نفس بالفطرة، هو الشخص الذي يطرح السؤال الأهم قبل أن يبدأ كل شيء: "ماذا نريد أن يشعر به الجمهور في هذه اللحظة؟". هذا السؤال لا علاقة له بنوع العدسة المستخدمة، بل بجوهر الإنسانية. كما أشار الناقد الراحل روجر إيبرت ذات مرة، "الأفلام آلة تولد التعاطف". والمخرج هو مشغل هذه الآلة السحرية، هو الذي يقرر أي الأزرار سيمس في أرواحنا ليجعلنا نشعر بالفرح، أو الخوف، أو الحنين.

العلاقة ليست شاشة/مقعد فقط، المخرج يفاوضني على انتباهي وثقتي: متى يقدّم المعلومة، ومتى يؤجلها؟ ما الذي يضعه أمامي، وما الذي يتركه لي؟ هل يشرح كل شيء فيخنقني، أم يثق بي فأكمل المسافة؟

المخرج الواعي يعرف أن المتفرج شريك ذكي: يدعوه للحلول بدل أن يجرجره إليها، يكرم فضوله ولا يبتذل ألمه. لهذا تظل لقطة صادقة، موضوعة في مكانها، أقوى من عشر لقطات تُري مهارة ولا تكشف إنسانا.

إنها مهمة أشبه بقيادة أوركسترا صامتة. فكل فنان في الفريق -الممثل، مدير التصوير، المونتير، مهندس الصوت- يعزف على آلته الخاصة ببراعة. لكن المخرج هو المايسترو الذي يقرأ النوتة الكاملة، تلك التي لا يراها أحد سواه. هو لا يخبر عازف الكمان كيف يحرّك أصابعه، بل يصف له شعور الشفق وهو يهبط على مدينة متعبة، ليترجم العازف هذا الشعور إلى لحن. هو لا يأمر الممثل بالبكاء، بل يخلق معه مساحة آمنة من الثقة تسمح لدموعه بأن تجد طريقها بصدق. عمله هو توحيد كل هذه الأصوات المبدعة لتخرج في النهاية بنغمة واحدة متجانسة ومؤثرة، هي رؤيته.

يقول المخرج العظيم أندريه تاركوفسكي إن "السينما هي النحت في الزمن". يا لها من عبارة! فالمخرج ليس مجرد سارد لقصة، بل هو نحات كتل زمنية. يختار متى يبطئ اللحظة لنشعر بثقلها، ومتى يسرّع الإيقاع لتتسارع معه أنفاسنا. الثانية عنده قد تمر كدهر، والدقيقة قد تطير كلمح البصر. هذه السيطرة على إحساسنا بالوقت هي إحدى أدواته الخفية والأكثر قوة، وهي التي تحوّل الحكاية من مجرد سرد أحداث إلى تجربة شعورية نعيشها بكامل حواسنا.

المخرج الذي لا يعرف ما الرغبة التي يترجمها- سيُحسن التزيين، لكنه سيعجز عن الإقناع. أما حين تتضح الرغبة، فإن أبسط العناصر تغدو معبرة: فنجان على الطاولة، زر ضوء لا ينطفئ، درجٌ يئن.. تفاصيل صغيرة تحمل ثقل القصة.
أن تكون مخرجا يعني أن تكون بمثابة الفلتر الأخير لكل شيء. كل فكرة، كل حوار، كل نظرة، كل لون، يجب أن يمر عبر عين قلبك أولا. يجب أن يتشبع بوجهة نظركِ للعالم، بتساؤلاتك، بأفراحك الصغيرة ومخاوفك الكبيرة. الفيلم العظيم لا يرينا العالم كما هو، بل كما يراه مخرجه. إنه دعوة لطيفة لنترك أعيننا جانبا لدقائق، ونستعير عيني شخص آخر لنرى بهما الحياة. وهذه هي أسمى درجات الفن، وأجمل ما يعنيه أن تكون "مخرجا".




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب