تمر هذه الأيام ذكرى واحدة من أكثر اللحظات إيلامًا في تاريخ الأندلس، وهي توقيع معاهدة تسليم مدينة بلنسية (فالنسيا حاليًا) إلى مملكة أراغون المسيحية، بعد حصار قاسٍ دام قرابة خمسة أشهر أنهك سكان المدينة وأضعف مقاومتهم. كان ذلك المشهد تتويجًا لمسار طويل من الانهيار السياسي والعسكري في الأندلس، حيث تقهقرت المدن الإسلامية واحدة تلو الأخرى أمام المد المسيحي المتصاعد في شبه الجزيرة الإيبيرية.
حلم ملك أراغون وفرصة السقوط
مع بدايات القرن الثالث عشر الميلادي، كانت مملكة أراغون تترقب لحظة مواتية للسيطرة على بلنسية، تلك المدينة المزدهرة التي مثّلت قلبًا نابضًا للأندلس بحدائقها الغنّاء وأسواقها العامرة وحصونها الشامخة، وعندما رأى الملك الأراغوني أن المدن الإسلامية حول بلنسية تتساقط، وأن روح اليأس بدأت تخيم على أهلها، وجدها الفرصة الذهبية لتحقيق حلمه القديم، فسار بجيشه الكبير صوب المدينة.
مقاومة رغم قلة العَدد والعتاد
على الرغم من الحصار المشدد، لم يسلّم أهالي بلنسية منذ اللحظة الأولى. بل أظهروا مقاومة باسلة دفعت الملك الأراغوني نفسه إلى الإعجاب بصلابتهم. فقد كان سكان المدينة، رجالًا ونساءً، يضربون أروع الأمثلة في الصبر والثبات. والملك أبو جميل زيان، آخر حكام بلنسية من بني زيان، كان أكثرهم عزيمة وإصرارًا، إذ حاول مرارًا طلب العون من الإمارات الإسلامية القريبة، غير أن الاستجابة لم تأتِ، وبقيت المدينة وحدها في مواجهة جيش ضخم يملك من العتاد ما لا يُقارن بما لدى المدافعين عنها.
خمسة أشهر من الحصار القاسي
طوال خمسة أشهر، استبسل البلنسيون في الدفاع عن أسوارهم، لكن الحصار كان خانقًا. نفدت المؤن، وتعرضت الأبراج والأسوار للتصدع تحت وطأة القصف والهجمات المتكررة. ومع مرور الوقت، بدأت المجاعة تفتك بالناس، وانهارت قوى المدافعين. عندها أدرك الأمير زيان، ومعه وجهاء المدينة، أن لا مفر من التفاوض لتجنب مجزرة قد تُبيد الأهالي إذا اقتُحمت المدينة بالقوة.
التفاوض ومعاهدة التسليم
أرسل الأمير زيان ابن أخيه ليجتمع بملك أراغون ويفاوضه على شروط الاستسلام. وبعد مشاورات، اتفق الطرفان على أن تُسلَّم بلنسية صلحًا، لا عنوة. وبذلك كُتب للمدينة أن تدخل عهدًا جديدًا تحت حكم المسيحيين، بعد أن كانت لقرون طويلة إحدى درر الحضارة الإسلامية في الأندلس.
صدى المعاهدة وتداعياتها
توقيع معاهدة تسليم بلنسية لم يكن مجرد حدث محلي؛ بل كان ضربة قاصمة للوجود الإسلامي في شرق الأندلس، ومقدمة لانحسار متسارع انتهى بسقوط معظم مدن المنطقة في أيدي الممالك المسيحية. وقد رأى المؤرخون أن المعاهدة جسّدت لحظة مأساوية تجسد حالة العجز التي عاشتها الدويلات الإسلامية آنذاك، حيث عجزت عن نجدة بعضها البعض، وتركت المدن تتساقط تباعًا.