في الحقول الممتدة، تولد يوميًا حكايات من النضال، لوجوه وجدت نفسها في مواجهة مبكرة مع مسؤوليات تفوق أعمارها، لم تعرف الدلال، ولم تتذوق طعم الطفولة كما ينبغي، بل اعتادت منذ الصغر أن تحمل عزيمة لا تهتز أمام التعب أو الألم، وتكدح بأكتاف مثقلة، وخطوات ثابتة، ونظرة صامتة تقاوم، سعيًا وراء لقمة شريفة، تعين بها نفسها وتساند بها أسرتها.
.jpg)
فتيات يعملن باليومية
حين نتحدث عن الكفاح، قلّما نلتفت إلى الأيدي الصغيرة التي تخوض معاركها بصمت بين السنابل والتراب، تلك الفتيات اللواتي وجدن أنفسهن منذ الطفولة وجهًا لوجه أمام تعب الحياة، ينهضن مع الفجر، يحملن المسؤولية على أكتافهن كأنها حقٌ فُرض عليهن، ويواجهن التعب بلا ضجيج حتى تغرب الشمس، لا يشتكين ولا يتوقفن، فقط يعملن بنظرة صامتة تقول الكثير.
.jpg)
فتاة تعمل باليومية
ورغم بساطة ما يجنينه من تعب يومٍ طويل، تحمل كل واحدةٍ منهن في قلبها شعورًا بالرضا، وكأنها تعلم في قرارة نفسها أن هذا الجهد ليس ضياعًا، بل بذرة لحياة أفضل. هنّ أبطال صامتون، لا يطلبن شيئًا، فقط أن تمرّ الأيام بسلام، وأن يبقى في آخر النهار ما يكفي احتياجاتهن… وربما حلم صغير، مؤجل.
رحمة عاملة باليومية
"كلنا هنا بنشقى ونكافح عشان نكسب بالحلال، والشغل في الأرض صعب بس لازم نشتغل".. تقولها رحمة وهي تمسح عرق جبينها بطرف طرحتها، قبل أن تعود لاستكمال عملها في فرز ثمار البلح وتعبئتها.
رغم صغر سنها، تحمل على كتفيها ما لم تتحمله نساء في أعمار مضاعفة، فتبدأ يومها مع الفجر، وتختمه مع غروب الشمس، وكل ما تأمله أن تعود إلى منزلها بـ"يومية" تعينها على متطلبات الحياة.
.jpg)
رحمة أثناء عملها
تعلمت "رحمة" كيف يكون الكفاح عنوانًا لحياتها اليومية. بملامح طفولية ويدين أنهكهما التعب قبل الأوان، جلست تحكي قصتها بابتسامة تُخفي خلفها الكثير من المشقة: "عندي 17 سنة، بشتغل باليومية في موسم البلح، وفي أي موسم بننزل نكافح ونشقى عشان لقمة عيشنا.. أنا نزلت الشغل من وانا عندي 15 سنة".
بين النخيل الممتد في الأفق، تقضي رحمة ساعات طويلة تحت شمس قاسية، تجمع البلح وتحمل الأجولة الثقيلة إلى السيارات، دون أن تفقد عزيمتها: "بنصحى من الساعة 5 الصبح وننزل الأرض ونرجع الساعة 5 المغرب.. بنحصد البلح، ونفرزه في مكان واسع بنسميه المنشر تحت الشمس، ولما تيجي العربية بنحمله عليها".
وعلى الرغم من أن ما تتقاضاه في نهاية اليوم لا يتناسب مع حجم المشقة، إلا أن لذة الرضا تغلب أي شعور بالتعب: "اليومية اللي باخدها بتساعد في مصاريف البيت، لما بارجع من الشغل، بديها لأمي، ولما بحتاج حاجة بتديني ومبتستخسرش فيا حاجة.. إحساسي وأنا مروحة بالفلوس بكون فرحانة أني قادرة أجيب اللي نفسي فيه".
.jpg)
عاملات اليومية
تعتبر نفسها مختلفة عن بنات جيلها، لا تنتظر مصروفًا من أبيها، بل تختار أن تكسب بعرق جبينها حتى تذوق طعم الإنجاز: "في بنات بتاخد مصروفها.. بس أنا لو خدت من أبويا مش بكون فرحانة، عشان مش من شقايا وتعبي.. أنا بشتغل واجيب كل حاجة نفسي فيها، وفخورة بنفسي".
ورغم محاولات والدها المستمرة لحمايتها، تصر على الاستمرار في العمل لمساعدة أسرتها الكبيرة المكونة من ستة إخوة. تقول بابتسامة يختلط فيها التعب بالحب: "أبويا بيقولي متروحيش، بس كتر خيره.. إحنا 6 اخوات.. وليا أختي شغالة معايا بس في مكان تاني، والحمد لله".
لكن أكثر ما يثقل قلبها ليس التعب، بل بعض الكلمات الجارحة التي تواجهها أحيانًا في أرض العمل. تعترف بصوت هادئ: "أكتر حاجة بتزعلني لما أكون شقيانة وشغالة وحد يكلمني بطريقة وحشة.. بس بتحمل عشان مضيعش يومي بعد ما اشتغلت".
.jpg)
رحمة عاملة باليومية فى البدرشين
رحمة، التي بدأت رحلتها في العمل طفلة، لا ترى في الطريق أمامها سوى الاستمرار في الكفاح، متشبثة بحلم صغير مؤجل: "هكمل كفاح واشتغل عشان أجيب كل حاجة أنا عايزاها ونفسي فيها".
.jpg)
ملك عاملة باليومية
من بين الوجوه التي أنهكها التعب قبل الأوان، تبرز "ملك" ابنة السابعة عشرة، بملامح صغيرة لا تشبه عمر الكفاح الذي عاشته. منذ الرابعة عشرة وجدت نفسها تحمل على كتفيها ما يفوق قدرتها، لكن قلبها ظل متمسكًا بالأمل في حياة أفضل: "بدأت أشتغل من وانا عندي 14 سنة، اشتغلت في الأراضي.. في الملوخية، في البطاطس، في كل حاجة أنا بشتغل".
لم يكن الطريق أمامها سهلًا، فالمسؤوليات سبقت طفولتها، واضطرت أن تترك مقاعد الدراسة لتسهم في مصاريف البيت: "اتبهدلت من صغري.. ماقدرناش نتحمل مصاريف المدارس.. بقالي 3 سنين شغالة، وفي غير المواسم بشتغل عندنا في البلد".
.jpg)
ملك عاملة باليومية فى البدرشين
بين الخامسة فجرًا والثامنة مساءً، تقضي "ملك" يومها في الحقول: "بنصحى من الساعة 5 الفجر ونخلص على الساعة 7 أو 8 بالليل.. وفي عربية بتيجي تاخدنا وترجعنا.. أول ما بنيجي بننقض الحلو من الوحش، والشغل تعب والجو حر وبهدلة، بنفضل نجري شمال ويمين".
لكن وسط هذا العناء، هناك كلمة قادرة على محو كل الألم، كلمة أمها التي تنتظرها عند عودتها. بعينين دامعتين تبتسم: "اللي بينسيني التعب كلمة أمي لما بروح.. بتقولي تعبتي من صغرك يا بنتي، ربنا يعينك ويستر عرضك.. الكلمتين دول بالدنيا كلها". أما عن مصدر سعادتها، فالأمر أبسط مما يتخيل الكثيرون، مجرد جملة من أمها تكفي: "أكتر حاجة بتسعدني هي كلمة أمي".
.jpg)
ملك أثناء عملها
ورغم قسوة العمل، لا تحمل "ملك" في قلبها سوى الرضا والإيمان أن قوتها ليست إلا منحة من الله. تقول بتسليم: "أنا تعبانة أو مش تعبانة بنزل.. ربنا بيقويني، دي حاجة بتاعت ربنا". ومع ذلك، تبقى الكلمات القاسية من الآخرين أكثر وجعًا من التعب نفسه: "أكتر حاجة بتزعلني لما ألاقي واحد بيكلمني وحش ويقولي: انجزي شغلك شوية.. أو لما حد يزعق ويشتم".
.jpg)
ملك تتحمل رغم قسوة التعب
تتمنى "ملك" أن يأتي اليوم الذي تتخلى فيه عن هذا الشقاء، لتعيش حياة هادئة تشبه أحلام البنات في عمرها: "نفسي أكون سعيدة زي أي بنت. أحنا اتكتب علينا الشقى من صغرنا.. بس الحمد لله. اليومية بتفرحني، بجيب بيها اللي في نفسي، وربنا يعين كل واحدة ست بتكافح ويسترها علينا.. والشغل لا عيب ولا حرام".
.jpg)
كفاح ملك فى الحقول
.jpg)
العمل من أجل لقمة العيش
.jpg)
فتيات يعملن باليومية من أجل لقمة العيش