قادهما النادل فور وصولهما إلى طاولة صغيرة مستديرة مصنوعة من خشب الماهونجي الأحمر اللامع في ركن يبدو كأنه منفصل عن باقي المطعم ومجاورلنافذة طويلة تطل على الشارع الرئيسي...
وقعُ قطرات المطر على الزجاج الملوّن يُضفي على المكان أجواءً غريبة.. خليط من الحميمية والقداسة والهدوء.. ذلك الهدوء الذي يسبق الصّلاة وليس العاصفة!
جلسا متقابلين في المنتصف أطباق فارغة وكؤوس ملأى بنبيذ يكرهَانِه وجليدٍ لا يذوب!
لم يجرأ أحدهما على التفوه بأي شىء رغم كل المحاولات..
ها هو الصمت ينظم إليهما كضيف ثقيل، ثقيل جدا لدرجة الألم.
رفع رأسه ببطء متَعَمَّد وغاص في عينيها.. لقد كانتا يوماً ما ملجأه الذي يحتمي منه في كل مرّة يقسو عليه العالم، أما الآن فتبدوان شديدتي السّواد.. ملآئ بخيباتِ أملٍ بحجم المحيط..
"كيف حالك؟" كان ذلك كل ما استطاع التفوه به أخيرا بعد محاولات عقيمة لقول أي شيء يكسر به صمت الّلقاء ولم يلبث أن أدرك كم يبدو السؤال غبيّا.. مبتذلاً و لا يليقُ بثقل اللّحظة.
"أنا بأفضل حال، شكراً" قالتها بكل اللامبالاة التي في هذا الكون ورفعت يدها، ليس لتلمس يده ولكن لتعدّل من شالها وترتشف ما تبقى من كأسها قبل أن تشير إلى النادل بالمزيد.
لاحظ لأول مرّة أن أظافرها بدون ذلك الطّلاء الأحمر المعتاد... إنهّا تتجاوزه! تتجاوزه بينما ترتشف نبيذاً تمقته على نفس الطاولة معه !
أفلت ابتسامة قصيرة ساخرة تليقُ بهول ما مرّ للتو برأسِه، فقد كانت تضعُ طلاء الأظافر ذاك فقط لأنه المفضل لديه!
أدارت وجهها نحو النافذة خارجاً.. كانت الحياة تمرّ: سيارات، مشاة، أضواء متحركة.. كان العالم يستمر في دورانه غير عابئِ بهما، بينما كان عالمهما يدور في دوّامة صامتة يتخلله فقط صدى اصطدام الأواني والأكواب في الخلفيّة...
'أنتِ لا تأكلين شيئا... ألا يعجبك الطعام؟' قالها في استسلام..
'بلى ... يبدو شهيّا ... أنا فقط لا أشعرُ بالجوع...' ردّت في هدوء مخيف..
استرقا النظر إلى طبقي بعضهما البعض ولم يكن فيهما سوى ذكريات وجباتٍ سابقة وضحكات عالية، وخطوات أصابعهما وهي تتشابك فوق المائدة... الآن، لم يعد في الأطباقِ سوى جفاءٍ فاخر ووداعٍ لم يٌعلَن بعد!!
في النهاية، لم يتبادلا سوى نظرات محملة بكل شيء... إلا الأمل...
دفع كرسيه للخلف،مٌصدرًا خشخشة قطعت ذلك الصمت الرهيب وهمس بكلمة واحدة فقط، كانت أثقل من كل وجبات ذلك المطعم الفاخر: 'وداعاً'
لم تلحظ اختفائه أو ربما فعلت.. عادت إلى النافذة مجددا: سيارات، مشاة و أضواء متحركة ... العالم يستمر في دورانه..ككلّ مرّة.