من القضايا المطروحة حول كيفيات الاستجابة للأعمال الأدبية، (والإبداعية عموما) والمطروحة أيضا حول كيفيات تقييمها والحكم عليها.. تلك القضية التي تتصل بالعلاقة بين العمل الأدبي، من جهة، ومواقف كاتب هذا العمل، من جهة أخرى.. وهذه القضية هي نفسها التي يشار إليها، باختصار، على أنها قضية العلاقة بين "المقاصد الواعية" و"المقاصد غير الواعية" للكاتب (والمبدع بوجه عام).
طبعا من المفترض، ومن الرائع أيضا، أن يكون هناك نوع من الاتساق بين ما يطرحه الكاتب في أعماله، وما يتصل بحياته خارج الإبداع. لكن هناك حالات كثيرة وأمثلة متعددة، في التاريخ الأدبي، تشير إلى وجود مسافة، وأحيانا إلى وجود اختلاف، أو حتى إلى وجود تناقض، بين ما يطرحه الكاتب في أعماله، من ناحية، وما ينتمي إليه أو ما يمارسه أو يتخذه من مواقف، من ناحية أخرى.. والتمثيلات على هذا المعنى واضحة في تجارب عدة عرفها تاريخ الأدب والإبداع.
من هذه الأمثلة تجربة الشاعر الأميريكي إزرا باوند، الذي كان "تقدميا" و"حرا" في شعره، ولكنه دعم "الفاشية" وناصر موسوليني، في آرائه المعلنة ومواقفه.
ومن هذه الأمثلة أيضا تجربة الشاعر والمسرحي الأميريكي (من أصول إنجليزية)، توماس ستيرنز (أو: ت. س.) إليوت، الذي كتب شعرا لم يخل من سمات واضحة للتجديد وللتمرد والتحرر، بينما كانت له آراء "تقليدية" خارج الشعر.
ومن هذه الأمثلة، وإن في وجهة أخرى، ما ارتبط بالكاتب الروسي ليو تولستوي، الذي كان سليل عائلة نبيلة غنية إقطاعية، ولكن كتاباته مضت في اتجاه آخر، مرتبط بحياة البسطاء الذين كان وظل قريبا جدا من عالمهم (وتجربته أكثر تركيبا، فهو قد تخلى عن ثروته في مرحلة متأخرة من حياته.. وفيما بعد وفاته، عام 1910، وفي دولة الاتحاد السوفييتي الناشئة (بعد عام 1917)، تعامل مع كتاباته بعض "النقاد الرسميين" على أنها تجربة كاتب ينتمي إلى الإقطاعيين، ثم تحول هؤلاء النقاد عن هذا التصور بعدما كتب ودافع عنه رأس الدولة، فلاديمير لينين، الذي أكد أن "تولستوي عظيم كمصوّر للأفكار والمشاعر التي ظهرت بين ملايين الفلاحين الروس".. وتأسيسا على ذلك رأى أولئك الذين تحولوا من الهجوم إلى الدفاع أن تولستوي نبيل إقطاعي، لكنه في كتاباته نظر إلى العالم بعيني فلاح روسي فقير!
**
هناك بالطبع تمثيلات عربية على المسافة بين الكاتب في إبداعاته والكاتب في حياته وممارساته، بالطبع... وإن كانت أكثر تعقيدا وربما أكثر التباسا..
**
التفسيرات كثيرة وممكنة ومتنوعة لهذه المسافة، وأحيانا لهذا الاختلاف أو التناقض، بين أعمال الكاتب الإبداعية وحياته الاجتماعية..
من بين هذه التفسيرات ما يذهب إلى أن هذا الكاتب، في النهاية، هو إنسان.. ومثله مثل كل إنسان يعيش في مجتمعه، ويمر بتجارب القوة وبتجارب الضعف، وأحيانا يتسرع أو يخطئ كما يتسرع كثيرون ويخطئون.. أو يمكن أن يضطر إلى "الكذب الاجتماعي"، أو حتى إلى "النفاق"، كما يضطر بعض الناس..
ومن بين هذه التفسيرات ما يرى أن المبدع إنما يكون صادقا، وقادرا على أن يعبر عن "نفسه الحقيقية"، وعلى أن يبلور "مقاصده" بشكل مكتمل وحرّ، باستخدام أدوات التعبير المثلى التي يتقن استخدامها، أي خلال إبداعه فحسب. وأنه خارج هذا الإبداع يمكن أن يعبّر عن تصوراته بطرق قد لا تخلو من قصور أو تشوش.
**
كيف يمكننا، إذن، في هذه الحالات وهذه التجارب، التعامل مع تلك المسافة، أو ذلك الاختلاف أو التناقض، بين "الإبداع" و"مبدع" هذا الإبداع..
لعل الإجابة المقنعة، وربما الآمنة، عن هذا السؤال، تتمثل في ضرورة التعامل مع العمل الإبداعي نفسه بشكل أساسي.. فهذا العمل هو وحده الذي يمكن الخروج منه بـ"الرؤية" الحقيقية للكاتب.. بقطع النظر عن مدى توافق هذه الرؤية مع تصريحاته وممارساته ومواقفه.. ويؤيد هذا التصور، في هذه الإجابة، أن هناك بعض الكتاب والمبدعين، في تاريخ الإبداع الممتد، لا نعرف عنهم الكثير، أو نعرف عنهم معلومات متضاربة، تتداخل فيها الحقائق والأساطير (كما هو الحال مثلا مع شخصية امرئ القيس)، كما أن هناك مبدعين آخرين يمكن التشكك في نسبة أعمالهم أو بعضها إليهم (مثل "هوميروس"، أو حتى مثل وليام شيكسبير بجلالة قدره!)
كما هو ملحوظ، يبدو أغلب هذه التفسيرات مرتبطا بتاريخ قديم، لم تتوفر فيه المعلومات الكافية عن حياة المبدعين، وهذا يتصل باختلاف واضح عن العصر الحديث الذي أصبحت فيه سير الكتاب، وتصريحاتهم وممارساتهم ومواقفهم، متاحة ودقيقة ومعروفة إلى حد بعيد.. وعلى ذلك يجب أن تمضي التفسيرات للمسافة بين الكاتب وأعماله (بهذا العصر الحديث)، في اتجاه آخر يحتاج إلى كثير من التقصي والاستكشاف.. كما يمكن أن تتعدد هذه التفسيرات، في تعاملها مع تجارب الكتاب وأعمالهم، أي تتعدد من حالة لأخرى من الحالات التي تمثلت فيها تلك المسافة بين أعمال الكاتب الإبداعية.. وأرائه ومواقفه خارج إبداعه.