رغم أن "المدينة"، بصيغة التعميم، تأسست في مختلف الحضارات والأقاليم والنظم الاجتماعية والسياسية على سمات مشتركة، فإن بعض المدن ظل، لفترات تاريخية ممتدة، مرتبطا بقسمات متفردة، أو موسوما بملامح خاصة مميزة. وفيما بعد العصر الصناعى لم تعد مدن العالم القديم واحدةً، ولا متشابهةً، إلى حد يمكن معه إطلاق أحكام موحدة تنطبق عليها جميعا، مثلما كان الحال في عصور سابقة. وفى هذا المنحى يمكن ملاحظة أن القاهرة، وبعض المدن العربية والشرقية العريقة، أخذت الكثير من معالم مدينة الغرب، خلال القرنين الماضيين، لكن هذه المدن ظلت محتفظة، فى بعض قطاعاتها، بمعالم محلية موصولة بتراثها القديم، أو ظلت خاضعة لقانون خاص يجعل منها كيانا مرنا يتلقى التغيرات الجديدة بنوع من التشبُّث بمكوِّنات الجذور، مما جعلها تستوعب تلك التغيُّرات داخل إطار من "التراكُب التاريخى" الفريد، بحيث يبدو بعض هذه المدن، الآن، منتميا ـ في اللحظة الواحدة ـ إلى عصور متعددة. وبذلك، حافظت هذه المدن على عناصر متوارثة في تكوينها، ولم تسمح للجديد الوافد بأن يمحو هذه العناصر تماما. وربما كان في هذا استمرارٌ لما عرفه بعض هذه المدن ـ في تواريخ أقدم ـ من القيام على أكثر من نشأة واحدة، بدا مع كل نشأة منها كأن المدينة "تُولَد" "من جديد"، وإن لم يكن هذا "ميلادًا" تماما، ولا "جديدًا" تماما، فسرعان ما غذّت هذه "النشآت" ذلك الكيان الواحد للمدينة، التى أصبحت كأنها تضمُّ "أكثر من مدينة"، داخل الحّيز الواحد. وبهذا أصبحت القاهرة، وبعض مدن الشرق القديمة، تتميز بمجموعة من الظواهر تمنحها طابعا فريدا بين مدن العالم.
من هذه الوجهة، تعدّ القاهرة، بمبانيها وأحيائها وتخطيطها، نتاج سلسلة من عصور متنوعة، وتعبيرا عن تداخُل معمارى تتجاور فيه أنماط شتى، كأنها تمثيل حى لتفاعل بين عناصر حديثة وأخرى قديمة، ولامتزاج بين تكوينات مدينية وأخرى قبل مدينية، ولتداخل بين علاقات حضرية وأخرى ريفية أو شبه ريفية، فيما يعرف بشكل "المتَّصل الريفىّ الحضرى" الذى صاغته الهجرات الريفية الموسعة، المستمرة، إلى هذه المدينة. وقد ظلت القاهرة، حتى زمن قريب، تنطوى على تكوين "متراكب" لم يتجاوز تماما بقايا الروابط الجماعية القديمة فى بعض أحيائها، الشعبية خصوصا، التى كان قد تم تخطيطها الأول بحيث يستوعب كل حى منها قبيلة معينة (أو، فيما بعد، بحيث يستوعب جنسية معينة، أو ديانة معينة، ثم طائفة حرفية أو تجارية معينة).. وهذه الروابط الجماعية داخل مدينة القاهرة، وداخل بعض المدن الشرقية، كان لها تأثيرها على صياغة المعانى السائدة التى اقترنت عادة بعالم المدينة الحديثة الغربية بوجه عام (مثل معانى: "الفردية"، و"الإبهام الحضرى"، و"التحرر"، والاغتراب..إلخ).
انقسمت القاهرة، خلال فترة "تحديثها" فى القرنين الماضيين، إلى أكثر من قطاع، أو ـ على الأقل ـ إلى قطاعين أساسيين: القطاع القديم الذى يمثل استمرارا لمعالم المدينة التاريخية، والقطاع الحديث الذى تمت إضافته إلى جسم المدينة والذى شيد على غرار تخطيطات بعض المدن الغربية. وقد كان لهذا الانقسام، ضمن انقسامات أخرى عكست تغيرات المدينة وتحولاتها، تأثيره فى ظهور صيغة خاصة للعلاقات الإنسانية فى هذه المدينة، وكان لهذه الصيغة حضورها فى علاقة الفرد بذاته، وعلاقته بالجماعة أو بالآخرين من حوله. ولعل هذه الصيغة حاضرة أيضا فى كل تناول روائى ينطلق من هذه المدينة أو يعبر عنها.
***
في تناولات الرواية المصرية للمدينة، بجماعاتها وأفرادها، يمكن أن نلحظ تجارب متباينة، تمثل مسارات عدة سار كل منها فى سبيل خاص.
هناك ـ مثلا ـ مسار روائى عبَّر عن تحولات المدينة، تحديثها أو "تغريبها" أو تحولها مع تحولات أكبر، وكيفية استيعاب الفرد لهذا التغير (وهو مسار بدأ منذ "حديث عيسى بن هشام" لمحمد المويلحى 1905، وانتهى إلى روايات حديثة نسبيا مثل: "ذات" لصنع الله إبراهيم 1983، و"رسالة البصائر في المصائر" لجمال الغيطانى 1989، و"بلد المحبوب" ليوسف القعيد 1992).
وهناك مسار روائى التقط التوتر بين عالمى الريف والمدينة، أو بين الروابط الجمعيّة الريفية وتضادها مع النزوع الفردى المدينى (وقد تمثل هذا المسار في روايات مثل: "الشوارع الخلفية" و"الأرض" لعبدالرحمن الشرقاوى، و"الخوف" و"محب" لعبد الفتاح الجمل، و"السنيورة" لخيرى شلبى، و"أيام الإنسان السبعة" لعبد الحكيم قاسم),
وهناك روايات تناولت تجربة الخروج من المدينة القديمة، باعتبارها "بيتا عائليا" مترابطا، إلى المدينة الحديثة (رواية لطيفة الزيات "الباب المفتوح"، ورواية إبراهيم أصلان "مالك الحزين" وقبلهما رواية "زقاق المدق" لنجيب محفوظ).
وهناك مسار روائى تناول "حياة" الفرد فى المدينة الحديثة، سواء تعلقت هذه الحياة بمعنى "التحرر" (رواية صبرى موسى "حادث النصف متر"، ورواية مجيد طوبيا "ريم تصبغ شعرها")، أو اتصلت بمعاناة تتمثل فى الاغتراب المطبق والعزلة اللانهائية في خواء هذه المدينة الحديثة (روايات علاء الديب: "القاهرة"، "الحصان الأجوف"، "زهر الليمون"، "أطفال بلا دموع"، "قمر على المستنقع"، "عيون البنفسج")، أو ارتبطت بمكابدة هذا الفرد الإحساس بالضياع في المدينة التى تحولت إلى "متاهة" (رواية خيرى شلبى "موال البيات والنوم")، أو بتلاشى هذا الفرد، باختفاء ملامحه وطمسها، إزاء سطوة الإبهام الحضرى بالمدينة (رواية ضياء الشرقاوى "أنتم يا من هناك"). وقريبا من هذه الوجهة، هناك مسار روائي يتشكل، تتصل تناولاته، بشكل تخييلي غير مباشر، بعالم المدن الجديدة التي بنيت كضواحي أو "توابع" لمدينة القاهرة، في الصحراوات المتاخمة لها، وكرست لمستويات جديدة من "الاغتراب" و"عدم التواصل".. ومن بينها روايات لهالة البدري (مدن السور) وأحمد ناجي (استخدام الحياة) وإلى حد ما رواية نعمات البحيري (يوميات امرأة مشعة).. وإن كانت مساحة التخييل في هذه الروايات الأخيرة كبيرة ومتسعة.
.. هذه المسارات (الأوّلية) التي مضت فيها روايات كان للقاهرة حضور فيها، ولو بطرائق غير مباشرة، تومئ إلى أن هذه المدينة، مثلها مثل بعض المدن الشرقية القديمة، لها خصوصية متصلة بسلسلة النشآت المتعددة، التي اقترنت كل نشأة منها بمعالم وعلاقات اجتماعية وغير اجتماعية جديدة، أضيفت إلى تكوينها القديم؛ وتراكمت وتفاعلت ملامح عصرها مع ملامح عصوره السابقة، وصاغت معه خصوصية مشهودة قابلة للتأمل من منظورات متعددة، من بينها منظورات الكتابة الروائية.