في عالم يلهث خلف السرعة والسطحية أحيانا، يأتي تكريم عملاق مثل روبرت دي نيرو في مهرجان كان السينمائي الثامن والسبعين هذا العام (2025) وتلك الليلة ليعيد إلينا الإيمان بأن السينما الحقيقية، التي تخاطب الروح قبل العين، لا تزال تحتل مكانتها الأثيرة. وحين يتعلق الأمر بـ "دي نيرو"، فالحديث ليس مجرد احتفاء بمسيرة فنية عظيمة فحسب، بل هو احتفاء بذلك الخيط الرفيع من المشاعر المتأججة التي نسجها على الشاشة الكبرى، والتي وجد فيها الكثيرون منَّا في العالم العربي صدى لأرواحهم.
نحن كشرقيين، نشتهر بعواطفنا الجياشة، بانفعالاتنا الصادقة التي قد تبدو مبالغ فيها للبعض، لكنها جوهر حيويتنا وعمقنا الإنساني. ولطالما رأيت في روبرت دي نيرو تجسيداً سينمائياً لهذا التناقض الظاهري الساحر: يمتلك احترافية الغرب المتقنة، هذه الدقة والقدرة على التقمص الكامل والتحكم في الأدوات، وفي ذات الوقت يفيض بمشاعر خام، عاصفة، متفجرة، تذكرنا بأكثر انفعالاتنا الداخلية صدقاً وشراسة.
من ينسى بركانا بشريا مثل "جيك لاموتا" في "الثور الهائج"؟ تلك المشاعر المتضاربة، الغضب الذي يحطم كل شيء، الحب الممزوج بالغيرة المدمرة، الضعف الكامن خلف قناع الصلابة. كان أداء لاذعا، صادقا، يغوص في أعماق النفس البشرية المضطربة بعنف. أو نظرات "ترافيس بيكل" في "سائق التاكسي"؛ ذلك الشعور بالوحدة والاغتراب والغضب المكبوت الذي يغلي ببطء حتى الانفجار. هذه ليست مجرد شخصيات تؤدي دورا، بل هي أرواح نزفت على الشاشة، ونحن، بقلوبنا التي تفهم لغة المشاعر الصريحة، تلقفنا هذا النزف وتعاطفنا معه وإن اختلفنا مع مساره.
في "العراب الجزء الثاني"، قدم لنا الشاب "فيتو كورليوني". لم يكن مجرد مهاجر يكافح، بل كان كتلة من التصميم والكبرياء والوفاء لعائلته، يختبر قسوة الحياة ويقاومها بعناد وشغف لبناء عالمه الخاص. تلك النظرة التي تحمل تحدياً عميقاً، تلك القرارات التي اتخذها بدافع الحاجة والولاء؛ كلها مشاعر نابعة من قلب يرفض الانكسار، وهو ما يلامس جزءا أصيلا في ثقافاتنا التي تمجد الصمود وقيم العائلة.
ومع مرور السنين، لم تتلاشَ هذه المشاعر، بل نضجت وتكثفت واتخذت أشكالا مختلفة. تحول "الرجل المتأجج المشاعر" إلى "الناضج الجذاب". رأيناه في دور رجل العصابات المهيب "جيمي كونواي" في "الأصدقاء الطيبون"، أو الرجل الهادئ لكن الخطير "نيل مكولي" في "حرارة". هنا، لم يعد الانفجار ظاهرا بالضرورة، لكن الشعلة لا تزال متقدة في عينيه، في طريقة مشيته، في هدوئه الذي يسبق العاصفة. حتى في أدواره الكوميدية مثل سلسلة "قابل الوالدين" (Meet the Parents)، تجد حس الفكاهة نابعاً من شخصية ذات عمق، من أب وجد لا يزال يحمل داخله قوة وعاطفة، حتى لو كانت مغلفة بصرامة ظريفة. وفي أفلامه الأحدث مثل "الإيرلندي" (The Irishman) و"قتلة زهرة القمر"، نشاهد فنانا يقدم الحكمة، الندم، ثقل السنين، وكلها معجونة بتلك الخبرة الحياتية والمشاعر المتراكمة التي لا يمكن إلا لفنان بهذا العمق أن يجسدها.
تكريم دي نيرو في كان ليس مجرد نجم يستلم جائزة؛ إنه تكريم لروح فنية فهمت أن أعظم الأدوار هي تلك التي تعري النفس البشرية بكل تناقضاتها. إنه احتفاء بقدرته على المزج بين الصنعة الغربية المتقنة والعاطفة الشرقية الأصيلة، ليقدم لنا شخصيات حقيقية، معقدة، لا تُنسى.
نحن نحب روبرت دي نيرو لأنه، في جوهره، يشبهنا في صدق مشاعره وعمقها، حتى وإن اختلفت سياقات الشخصيات التي يقدمها. لقد كان مرآة تعكس لنا جوانب من قوانا وضعفنا وشغفنا كبشر، وقصصاً تتجاوز حدود الجغرافيا. لذا، فالسعفة الذهبية التي سيتسلمها في كان هذا العام، هي في الحقيقة، سعفة ذهبية في قلوب كل محبيه في العالم، وفي قلوبنا نحن تحديدا، الذين وجدنا في فنه صدى عاطفيا قويا يلامس أعمق نقطة في أرواحنا. مبروك للأسطورة التي عادت إلى بيتها العالمي، بيتها الذي يشمل كل من أحب فنه الصادق في كل بقاع الأرض.