حالة من التغيير الجذري الذي تشهده المعادلات الدولية في اللحظة الراهنة، خاصة مع الرؤى التي تتبناها إدارة الرئيس دونالد ترامب، في إطار معالجتها للصراعات التي تشهدها الساحة العالمية، في ضوء تقاربه الكبير مع روسيا، على حساب أوروبا الغربية، في انقلاب صريح على "المعسكر الغربي"، والذي يعود تاريخه إلى ثمانية عقود كاملة، وتحديدا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، واندلاع الحرب الباردة، بينما يجد الحلفاء أنفسهم في موقف غير مسبوق، في إطار خطوات غير متوقعة، على الرغم من خبرتهم السابقة مع ترامب، في ضوء ولايته الأولى، فارتكزت استعداداتهم لاستقباله على قضايا التجارة والأمن، بالإضافة إلى موقفه المناوئ للاتحاد الأوروبي، ناهيك عن تقاربه مع روسيا، وموقفه من أوكرانيا.
إلا أن موقف ترامب من أوكرانيا، وإن لم يكن صادما تماما، في ضوء العديد من الإرهاصات التي شهدتها ولايته الأولى، وأبرزها حالة الانسجام التي تجمعه بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، إلا أن خطورته الحقيقية تتجلى في كونه محاولة لإرساء "سابقة" الضم، في إطار ضغوطه على كييف للتنازل عن أراض، لصالح موسكو، وهو ما يعزز نزعاته التوسعية، في إطار رغبته في السيطرة على مناطق خاضعة لسيادة دول أوروبية، وعلى رأسها جزيرة جرينلاند، والتي قد لا تكون الوحيدة، بالإضافة إلى مناطق أخرى في العالم، من بينها كندا، بالإضافة إلى حديثه المتضارب حول قطاع غزة، وهو ما فتح المجال أمام بريطانيا، للقفز على الأحداث باحتلال القيادة القارية، عبر القيام بدور الوسيط، بين الاتحاد الأوروبي، وواشنطن.
ولكن بعيدا عن الموقف الأمريكي، والوساطة البريطانية بين ترامب وأوروبا الغربية، وكلاهما سبق وأن تناولتهما في مقال سابق، ربما يثور التساؤل حول طبيعة العلاقة بين لندن وموسكو، في ظل الدور الذي تسعى حكومة كير ستارمر إلى القيام به خلال المرحلة المقبلة، في ظل مناوشات كلامية، بين الجانبين، خاصة وأن الدور البريطاني لا يمكن انفصاله بأي حال من الأحوال عن روسيا، والتي تعد طرفا أصيلا في أي محادثات مستقبلية، خاصة عندما يتطرق الحديث إلى ضمانات أمنية، من شأنها طمأنة دول الاتحاد.
وبالنظر إلى العلاقة بين بريطانيا وروسيا، يتكشف لنا أن ثمة تعقيدات كبيرة تحكم التفاعل بين البلدين، بعيدا عن العداء الظاهر بينهما، خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار حقيقة مفادها أن بريطانيا تسعى إلى استعادة دورها الإقليمى على المستوى القارى في أوروبا، لتقودها من خارج الاتحاد الأوروبى، بينما تبقى القيادة البريطانية للقارة العجوز مرتبطة تاريخيا ببقاء روسيا قوية، وهو الأمر الذي يبدو واضحا في رؤية رئيسة الوزراء التاريخية مارجريت تاتشر، والملقبة بـ"المرأة الحديدية"، والتي صعدت إلى السلطة في بلادها من رحم خطابها العدائي للاتحاد السوفيتي، إلا أنها كانت أكثر قادة الغرب سعيا وراء الإبقاء عليه، مع ظهور بوادر الانحلال خلال عهد الرئيس السوفيتي ميخائيل جورباتشوف، بل وكانت سببا رئيسيا في عقد لقاء بينه وبين الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان.
رؤية تاتشر، والتي ربما استلهمها قطاع كبير من خلفائها، دارت حول حقيقة مفادها أن بقاء الاتحاد السوفيتي، أو بالأحرى "الفزاعة" الروسية هي المدخل الرئيسي لاحتفاظ بريطانيا بمقعد القيادة في أوروبا، وهو الرؤية التي تكشف صوابها فيما بعد، عندما تراجع دور لندن تدريجيا لصالح الاتحاد الأوروبي أولا، بعدما تأسس في بداية التسعينات، لملء الفراغ الناجم عن انهيار الاتحاد السوفيتي، ثم بعد ذلك عبر تقديم ألمانيا في قيادة أوروبا الموحدة، خلال عهد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والتي كانت تراها واشنطن في عهد باراك أوباما بمثابة الحليف الأهم في القارة العجوز.
محاولات استدعاء "فزاعة" موسكو، من قبل الحكومات البريطانية المتتالية، تواترت، وإن كان ذلك على استحياء، في العديد من المشاهد، والتي اعتمدت فيها لندن على تعظيم بعض الحوادث العابرة، منها أزمة العميل المزدوج سيرجي سكريبال، خلال عهد رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي، والتي سعت إلى الترويج بأنها قد تكون مقدمة لاختراقات روسية جديدة لدول أوروبية أخرى، مستبقة بذلك الانفصال الرسمي عن أوروبا الموحدة، سعيا وراء القيادة من خارجها.
وفي الواقع يبقى دخول بريطانيا على خط الأزمة الأوكرانية في اللحظة الراهنة، ليس ببعيد عن رؤية تاتشر، عبر قيادة المعسكر المناوئ لروسيا في أوروبا الغربية، بينما في الوقت نفسه دون إضعاف موسكو، في ضوء الارتباط الوثيق بين قوة الروس ونفوذ المملكة المتحدة، في إطار مساعي ستارمر للفوز بثقة أمريكا لقيادة القارة العجوز، وهو الهدف الذي بات قريبا في ظل وجود ترامب، والذي يبدو متمسكا بموقفه المناوئ للاتحاد الأوروبي، وكلاهما (واشنطن ولندن) يرى أن تعزيز قوة موسكو هو السبيل الرئيسي نحو تركيع الحلفاء في القارة العجوز، في ظل ضمان احتياجهم المستمر لهما، وبالتالي يبقى من الممكن تقديم المزيد من التنازلات، خلال المستقبل القريب.
وهنا يمكننا القول بأن بريطانيا، وإن كانت تتبنى موقفا مناوئا لروسيا، إلا أنها تدرك أن موسكو هي بمثابة بوابة استعادة النفوذ القاري، بعد سنوات من التراجع، وهو ما يتوافق مع الرؤية التي تبنتها تاتشر قبل أكثر من 3 عقود من الزمان، أي قبل سنوات قليلة من نهاية الحرب الباردة، حيث حل الاتحاد الأوروبي ثم ألمانيا محلها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، لتصبح أزمة أوكرانيا، والخلافات بين أوروبا وإدارة واشنطن، فرصة لقيادة معسكر القارة ضد روسيا، عبر تقديم نفسها كوسيط بين أمريكا وأوروبا، والمدافع الأول عن مصالح محيطها الإقليمي، ولكن دون حراك حقيقي نحو تقويض ما تراه دول القارة تهديدا لها، على أساس حقيقة ارتباط النفوذ البريطاني بقوة روسيا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة