ذات ليلة بعيدة، عندما كنت أعيش فى الصعيد فى قرية صغيرة ينام ناسها قبل التاسعة مساء، يستعدون ليوم طويل من العمل يبدأونه بصلاة الفجر ثم يواصلون عملًا لا ينتهى، لذا فإن صلاة العشاء آخر عهدهم بالسهر، وهذه الحياة لا تناسب شابًا صغيرًا يستعد للذهاب إلى الجامعة، ويعرف أن السهر سيكون من مكتسبات الحياة الجديدة، لذا بينما يهجع الجميع، كنت أظل جالسًا أمام البيت يحيط بى ظلام شفيف وسكون لا يقطعه سوى صوت «وابور» يمر فى النيل ثم يختفى، وطائر «كروان» يلقى التحية كل حين، ويكمل طريقه فى السماء بحثا عن ساهرين آخرين، وبعدها يحل سكون طويل يقترب من حافة الملل.. وفجأة تغير كل شىء.
انقطع السكون وحملت الرياح صوت كوكب الشرق تغنى «يا حبيبًا زرت يوما أيكه» ظهر الصوت فجأة كأنه هبط من السماء أو نبت من الأرض، كان الصوت يقترب ويبتعد، حسب رغبة الرياح التى كانت تنتشى بصوت «الست»، وأنا حائر مأخوذ بما أسمع لكننى لا أعرف من أين يأتى الصوت؟ ولا أعرف أين هو ذلك الراديو الذى يبث الأطلال ويتعطر بهذا الفن؟ ولم أفكر فى ذلك الساهر مثلى الذى أرسل لى هذه الهدية، سحرنى الصوت الذى يواصل اقترابه وابتعاده وقلبى معه، كنت أخشى أن تصمت الست أو تخوننى الرياح فتذهب بالصوت بعيدًا، وانتابنى شعور غريب بالرغبة فى سماع هذا الصوت إلى الأبد.. هل بكيت فى تلك الليلة؟ لا أعرف، لكننى الآن كلما تذكرت هذه الليلة «المقدسة» ابتلت عيناى بالدمع.
إنها أم كلثوم، غير القابلة للاختصار، المعجزة الأبدية فى عالم الفن، التى مهما حاولنا تحليل فنها أو نجاحها أو حياتها لا نستطيع أن نلم بها تمامًا، بل نقدم محاولات.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة