شهد الاقتصاد المصرى خلال السنوات الأخيرة تحولا جوهريا يعكس انتقال الدولة من إدارة الأزمات إلى بناء مسار تنموى طويل الأجل، يقوم على إصلاحات هيكلية عميقة، ورؤية استراتيجية تستهدف تحقيق نمو شامل ومستدام.. هذا المسار الذى يقوده الرئيس عبدالفتاح السيسى، لم يقتصر على تحسين المؤشرات الاقتصادية الكلية، بل امتد ليشمل إعادة صياغة دور الدولة فى الاقتصاد، وتعزيز مشاركة القطاع الخاص، وترسيخ مفاهيم الحوكمة والشفافية، بما يضمن استدامة التنمية ووصول ثمارها إلى المواطن.
لقد انطلقت الإصلاحات الاقتصادية فى مصر من إدراك واعٍ لتعقيدات المشهدين الإقليمى والدولى، وما يفرضانه من تحديات متشابكة، سواء على صعيد تقلبات الأسواق العالمية، أو الضغوط التضخمية، أو الأزمات الجيوسياسية.
وفى هذا السياق، كان التركيز على دعم استقرار الاقتصاد الكلى، وتعزيز مرونته فى مواجهة الصدمات، من خلال سياسات نقدية ومالية متوازنة، وإصلاحات هيكلية تستهدف رفع كفاءة الاقتصاد الحقيقى، وتحسين بيئة الأعمال، وزيادة القدرة التنافسية.
ومع بداية عمل الحكومة الجديدة فى يوليو 2024، دخلت الدولة مرحلة أكثر تركيزا على التخطيط الاستراتيجى القائم على الأولويات، حيث تم دمج ملفات التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولى فى إطار مؤسسى واحد، يهدف إلى تعظيم الأثر التنموى للسياسات العامة، وتحقيق قدر أعلى من التنسيق بين مختلف الجهات الحكومية، فضلا عن التكامل فى إدارة ملف الاقتصاد على مستوى الدولة، والحد من الفجوة التمويلية من خلال الاستغلال الأمثل للموارد والتمويلات المحلية والدولية، وربط التخطيط طويل الأجل بآليات التمويل.
وشكّل البرنامج الوطنى للإصلاحات الهيكلية أحد المحاور الأساسية لهذا التحول، حيث يعمل على صياغة سياسات وإجراءات إصلاح هيكلى بالتنسيق بين الوزارات والجهات الوطنية المختلفة، وبما يتسق مع الاستراتيجيات القطاعية، لذلك فإن البرنامج يتضمن أكثر من 430 إجراء تنفذها أكثر من 40 جهة وطنية فى إطار من التكامل، وتتعلق بمختلف القطاعات سواء على صعيد الإصلاحات الضريبية، أو التجارية، وحوكمة الاستثمارات العامة، والحماية الاجتماعية، وتمكين القطاع الخاص، وتعزيز كفاءة سوق العمل، ودعم الابتكار والتحول الرقمى، وغيرها من القطاعات التى تسهم فى تعزيز استقرار الاقتصاد الكلى، وزيادة القدرة التنافسية وتحسين بيئة الأعمال، ودعم التحول إلى الاقتصاد الأخضر.
ويكتسب هذا البرنامج أهميته من كونه لا يركز فقط على الجوانب المالية، بل يمتد ليشمل إصلاحات هيكلية فى قطاعات الإنتاج، وسوق العمل، والاستثمار، بما يحقق توازنا بين الاستقرار الاقتصادى ومتطلبات النمو.
وللمرة الأولى، انعكست نتائج هذه الإصلاحات بشكل مباشر فى مؤشرات نمو الناتج المحلى الإجمالى للربع الأول من العام المالى 2025/2026، وهو ما يعكس تحول الإصلاحات من كونها إجراءات تصحيحية إلى سياسات مؤثرة فى الاقتصاد الحقيقى، كما أسهمت هذه الإصلاحات فى تحسين مناخ الاستثمار، من خلال تطوير القوانين المنظمة للاستثمار، وتعزيز الحياد التنافسى، ووضع معايير واضحة لتقييم المشروعات العامة، بما يضمن توجيه الاستثمارات نحو القطاعات ذات العائد الاقتصادى والاجتماعى الأعلى.
ويمثل ترشيد الإنفاق العام وحوكمة الاستثمارات العامة أحد المرتكزات الرئيسية لهذا المسار، حيث لم يعد حجم الإنفاق هو المعيار الأساسى، بل كفاءة توجيه الموارد وتعظيم العائد التنموى منها، وقد ساعد هذا النهج على تعزيز التنسيق بين الوزارات، وخاصة داخل المجموعة الاقتصادية، بما يضمن تكامل السياسات، ويحد من الازدواجية، ويعزز الاستقرار المالى على المدى المتوسط والطويل، كما أتاح ذلك إعادة توجيه الموارد نحو قطاعات حيوية تمس حياة المواطنين بشكل مباشر، مثل التعليم، والصحة، والحماية الاجتماعية، والبنية التحتية الذكية، بالإضافة إلى فتح المجال للقطاع الخاص عبر تحفيز استثماراته فى مختلف القطاعات.
وفى موازاة ذلك، شهدت مصر خطوات ملموسة لتحسين القدرة التنافسية للاقتصاد، من خلال تبسيط إجراءات الرخصة الذهبية، وتعديل قوانين الاستثمار والعمل، وإنشاء وحدة متخصصة للشركات المملوكة للدولة، إلى جانب إطلاق نظام ضريبى مبسط لدعم الشركات الناشئة. وتمثل هذه الإجراءات تحولا فى فلسفة التعامل مع القطاع الخاص، من كونه طرفا مساعدا إلى شريك رئيسى فى عملية التنمية، بما يعزز دور المشروعات الصغيرة والمتوسطة، ويدعم ريادة الأعمال والابتكار، ويوفر فرص عمل مستدامة، خاصة للشباب.
وتقوم «السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية»، على وضع الإنسان فى قلب عملية الإصلاح، إدراكا بأن الاستثمار فى رأس المال البشرى هو الضمان الحقيقى لاستدامة النمو. ومن هذا المنطلق، يتم التركيز على تمكين الشباب والمرأة، وتطوير التعليم الفنى والتدريب المهنى، وربط مخرجات التعليم باحتياجات سوق العمل، بما يعزز الإنتاجية ويرفع كفاءة القوى العاملة.
كما يشكل التحول الرقمى وتحديث البنية التحتية التكنولوجية عنصرا أساسيا فى دعم الاقتصاد القائم على المعرفة، وتحسين جودة الخدمات العامة.
وفى قطاع الطاقة، حققت مصر تقدما لافتا من خلال التوسع فى مشروعات الطاقة المتجددة والنظيفة، بما عزز أمن الطاقة، وفتح آفاقا جديدة لجذب الاستثمارات، وأسهم فى دعم التحول نحو اقتصاد منخفض الكربون. أما القطاع الصناعى فقد شهد جهودا مكثفة لتطوير المناطق الصناعية، وتشجيع التصنيع المحلى، وزيادة القدرة التنافسية للمنتجات المصرية، بما يدعم استراتيجية الدولة لزيادة الصادرات وتعميق التصنيع.
وتبرز الدبلوماسية الاقتصادية كإحدى الأدوات المحورية لدعم هذا المسار، حيث أسهمت جهود وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولى خلال الفترة من 2020 إلى 2024 فى حشد تمويلات تنموية ميسرة، وتوفير دعم فنى لمشروعات استراتيجية فى مجالات الطاقة، والمياه، والزراعة، والأمن الغذائى، كما أُطلقت الاستراتيجية الوطنية المتكاملة للتمويل، التى تمثل إطارا شاملا لتنسيق مصادر التمويل، وضمان توجيهها نحو القطاعات ذات الأولوية، وتحفيز استثمارات القطاع الخاص، بما يسرّع تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
إن ما يشهده الاقتصاد المصرى اليوم من تحسن فى مؤشرات الاستقرار والنمو والاستثمار يعكس التزام الدولة بمسار إصلاحى متكامل، لا يهدف فقط إلى تحقيق مؤشرات إيجابية، بل إلى بناء اقتصاد قادر على الاستمرار، ويضع المواطن فى صميم أولوياته. وبهذا المعنى يخطو الاقتصاد المصرى بثبات نحو ترسيخ مكانته كنموذج إقليمى واعد، يجمع بين الإصلاح، والاستدامة، والعدالة التنموية.
كما يشهد العام المالى بدء التطبيق الفعلى لموازنات البرامج والأداء فى إطار موازنى وخطة متوسطة الأجل، وبما يضمن ربط الأداء المالى بالأداء التنموى ضمانا لتحقيق الأهداف الاستراتيجية ذات الأولوية للمواطن المصرى، وفى إطار من الكفاءة والفاعلية والعدالة والإنصاف فى توزيع ثمار التنمية.
ومع هذا التطور المستمر وما نشهده من تحسن فى مؤشرات الاقتصاد الكلى، وتحول فى نظرة تقارير المؤسسات الدولية لمستقبل الاقتصاد المصرى، مع ما تموج به المنطقة والعالم من تحديات، وفى ظل التزام الحكومة باستمرار مسار الإصلاح الاقتصادى، يدخل الاقتصاد المصرى عام 2026، وسط توقعات شديدة الإيجابية حول استمرار النمو مع التحول الهيكلى فى نوعيته، ونظرة أكثر تفاؤلا لمستقبل الاقتصاد، وسعى من مختلف الجهات المعنية للتخفيف عن كاهل المواطن المصرى، الذى تحمل كثيرا طوال السنوات الماضية.
