سبورة الدم.. كيف اغتالت الحروب مستقبل عقول الأجيال العربية؟ الحروب تمحو 20 عاما من التعليم وتخلف جيلا خارج الخدمة.. 30 مليون طفل بلا مدارس.. والزواج المبكر وارتفاع الجريمة والإدمان حصاد منتظر لـ«وباء الجهل»

الإثنين، 15 ديسمبر 2025 01:41 م
سبورة الدم.. كيف اغتالت الحروب مستقبل عقول الأجيال العربية؟ الحروب تمحو 20 عاما من التعليم وتخلف جيلا خارج الخدمة.. 30 مليون طفل بلا مدارس.. والزواج المبكر وارتفاع الجريمة والإدمان حصاد منتظر لـ«وباء الجهل» المدارس بين القصف والدمار أو مأوى للنازحين

تحقيق - آمال رسلان

«اليونسيف»: الحديث عن التعليم الرقمى ترف وغير واقعى فى ظل غياب الإنترنت وتدمير البنية التحتية

10 تريليونات دولار حصيلة الخسائر الاقتصادية سنويا من وراء الخروج من التعليم و74% نصيب العرب.. النزاعات والحروب تعيد تطوير التعليم لـ«المربع صفر».. وخبراء علم الاجتماع: مشاهد العنف ستقودنا لـ«جيل متطرف» سهل الاستقطاب

خبراء: تجنيد الأطفال يرتكز على استغلال أميتهم وجهلهم.. الفراغ الذى يعيشه الطفل إذا لم يمتلئ بالتعليم سيملأه أمراء الحرب.. مخيمات اللاجئين تخلق جيلا بدون هوية المنطقة ستبقى فى حالة نكبة دائمة من الصراعات المسلحة والإرهاب.. النازحون يروون عذاب رحلة التعليم تحت وطأة الحرب: مدارسنا تحولت لمعسكرات نازحين وبؤر للأمراض

«لم يكن هناك متسع للاشتياق لا للمدرسة ولا للأصدقاء.. كان الخوف يغطى كل شىء حتى الجوع.. وإبان تلك اللحظات المغلفة بالفزع، لم تكن الكتب المدرسية ضمن قائمة الأولويات».. هكذا فى رحلات النزوح التى تكررت ثلاثين مرة، كانت «أم عدى» تختار بدقة ما ستحمله معها، مكتفية فقط بما يُبقيها وأبناؤها السبعة على قيد الحياة، أما الكتب والدفاتر، فكانوا يتركونها خلفهم مع كل نزوح، كمن يترك جزءا من ذاكرته فى كل بيت يغادره.

غزة

أم عدى أو عزة إبراهيم، هى سيدة غزية وأم لسبعة أبناء، روت بدموعها حكايتها عن الأيام الأولى للحرب، وتفاصيل ليلة هروبها من مستشفى الشفاء إلى شمال القطاع مشيا على الأقدام، رحلة تصفها بأنها «مستحيلة» بمعايير البشر العاديين، لكنها ممكنة بمعايير الخوف.

قصف ودمار وموت وجوع، رباعية سقطت من بينها الورقة والقلم، وعندما طال أمد الحرب بدأت تظهر مبادرات تعليمية بسيطة فى خيمة بالية، الأطفال يجلسون على الأرض بدون مقاعد، لكنها كانت محاولة لمسار العودة، وبدأ بنات أم عدى يذهبن هناك مهللات بعودتهن إلى التعليم، فلم تمر سوى ثلاثة أسابيع من التحاقهن حتى انهالت تحذيرات الاحتلال بضروة إخلاء المكان، لتبدأ بعدها رحلة نزوح جديدة انهارت على أثرها  كل الأحلام.

وبين عودة الأمل والنزوح، مرت أعوام على الخروج من دائرة التعليم، ليس لأولاد أم عدى السبعة وحدهم بل لآلاف غيرهم، فمشاهد الهدم والدمار تتشابه وتتشابك فى أحداثها ونهاياتها، ما بين غزة والسودان واليمن وسوريا وجنوب لبنان والعراق وكل دولة عربية تعانى ويلات الحروب والنزاعات، قاسم مشترك قام بشطب أسماء ملايين الوجوه البريئة من سجلات المدارس، فى كارثة يصفها الخبراء بأنها اغتيال للمستقبل فى الشرق الأوسط، فطلقة مدفع واحدة كانت كفيلة بإسقاط منظومة تعليمية كاملة، وبإزهاق مستقبل ملايين الأطفال، دون أن ينتبه العالم لتلك الكارثة الصامتة التى تنمو فى الظل.

مدارس-لبنان

 

أرقام كارثية بحجم دولة

الأرقام التى أعلنتها منظمة اليونيسف، نوفمبر الماضى، تكشف حجم الكارثة ليس فى غزة وحدها، بل تشير تقديرات المنظمة الأممية، الخاصة بـ12 دولة فى المنطقة، أن عدد الأطفال غير الملتحقين بالمدارس- من 5 إلى 18 عامًا- قد ارتفع إلى 30 مليون على الأقل فى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من إجمالى 272 طفلا خارج المدرسة حول العالم، رقم يفوق الكثافة السكانية لبعض الدول مثل أستراليا التى تقترب من 28 مليون نسمة، ويقترب من كثافة سكان السعودية والمغرب، ويعنى أن طفلًا واحدًا من كل 3 أطفال فى هذه البلدان غير ملتحق بالمدارس مما يعرضهم لخطر عواقب طويلة المدى.

فى غزة- وفقا للتقرير- هناك 645 ألف طفل خارج المدرسة مع إغلاق جميع المدارس بالكامل منذ أكتوبر 2023. فى السودان، يزداد الوضع سوءا بوجود 16.5 مليون طفل خارج المدرسة بسبب النزاع الذى دمر العديد من المبانى المدرسية، وأدى إلى تعطيل التعليم، أما اليمن الممزق شمالا وجنوبا فيبلغ عدد الأطفال خارج المدارس- وفقا لآخر تحديثات اليونسيف- 4.5 مليون طفل، ورغم الهدوء النسبى فى بعض المناطق خلال السنوات الأخيرة، لكن التسرب من التعليم ما زال بنفس المستوى لأسباب اقتصادية، حيث هناك 90% من الآباء لا يستطيعون تحمل تكاليف التعليم، و66% من الأطفال يعملون لإعالة أسرهم، و66% لا يملكون تكلفة المواصلات للوصول للمدارس البعيدة.

وفى سوريا، التى تحاول تضميد جراح أكثر من عقد من المأسى، فهناك 2.4 مليون طفل لم يتلقوا تعليمهم، وليبيا التى توالت عليها النكبات خلال الـ15 عاما الأخيرة من اقتتال داخلى إلى فيضانات درنة، فهناك أكثر من 300 ألف لم يتلقوا تعليمهم، بالإضافة إلى أكثر من 175.800 طفل معرضون للخطر ويحتاجون إلى الحماية، فى حين أن حوالى 111.400 طفل على وشك فقدان الوصول إلى التعليم إذا لم يتم تقديم المساعدات الإنسانية لهم بشكل عاجل، وفى جنوب لبنان نحو 500 ألف طفل خارج المدرسة، وأكثر من 80% منهم من غير اللبنانيين لا يذهبون إلى مقاعد التعليم الرسمى.

لم تكن هذه الأرقام مجرد إحصاءات باردة، بل كانت أشبه بخرائط جينية تُظهر ملامح جيل كامل يتساقط من دفاتر الزمن، فعندما تقول اليونيسف: إن 30 مليون طفل أصبحوا خارج المدرسة، فهذا يعنى ببساطة أن طفلًا واحدًا من كل ثلاثة تم شطبه من سجل المستقبل. رقم لا يحدث فى مجتمعات مستقرة، ولا يظهر إلا حين تكون المنطقة كلها تحت القصف أو الفوضى أو الانهيار.

كلما اتجهت الخريطة نحو الدول التى تأكلها النار، اتضحت الحقيقة الأكثر قسوة، فكلما اشتعل النزاع انطفأ التعليم، دول مختلفة فى الجغرافيا لكنها متشابهة فى الفقد. مدارس تُمحى ومناهج تُنسى ومعلمون يختفون بين النزوح والجوع والدمار، وفى كل مرة يسقط فيها سقف مدرسة، يسقط معه عام دراسى كامل، ويسقط معه حلم طفل لم يكن يريد أكثر من مقعد ودفتر وقلم، ولا تتوقف الخسارة عند المبانى التى تحولت إلى ركام، بل تمتد إلى داخل العقول الصغيرة، انقطاع عام أو عامين يعنى أن الطفل فقد نصف ما تعلمه، وأن جيله كله سيكبر وهو يحمل أمية جديدة، أمية فى مهارات القراءة والحساب الأساسية، وحتى من استطاعوا الجلوس فى فصول بديلة أو خيام تعليمية، فإنهم عادوا إلى المدرسة لكنهم لم يعودوا للتعليم فعلا.

والأخطر أن آلاف الأطفال فى السودان ولبنان واليمن وغزة أصبحوا بلا أوراق ثبوتية بعد موجات النزوح، هؤلاء لم يعدوا فقط خارج المدرسة، بل خارج أى نظام يمكن أن يعيدهم داخل الحياة، ووقتها يصبحون فريسة سهلة لكل شىء مثل التجنيد، الاتجار بالبشر، أو العمل القاسى الذى يسلب طفولتهم للأبد. إنها ليست أرقامًا تُقرأ فى تقرير، بل مستقبل تتم إعادة تشكيله، فحين يسقط التعليم، لا يسقط الأطفال فقط.. يسقط المجتمع بأكمله.

كيف اغتالت الحروب مستقبل عقول الأجيال العربية (1)
 
 
 

 

حجم الأزمة التعليمية فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

أطفال خارج التعليم «2025 – وفق اليونيسف»:

إجمالى المنطقة
30 مليون طفل
 
 
غزة
645.000 طفل
 
السودان
16.5 مليون طفل
 
اليمن
4.5 مليون طفل
 
سوريا
2.4 مليون طفل
 
ليبيا
300.000 طفل
175.800 معرضون للخطر
 
جنوب لبنان
500.000 طفل خارج المدرسة
 

أطفال الحروب.. صعوبات نطق ونفسيات مدمرة

«التعليم فى غزة ليس مجرد حصة دراسية، بل هو معركة وجود»..  فكما يقول كاظم أبوخلف، المتحدث باسم اليونسيف لـ«اليوم السابع»: «نحن نتحدث عن رقم مرعب 97% من المدارس فى غزة تضررت، و88% منها تحتاج لإعادة تأهيل شامل، والمتبقى- وهو الفتات- تحول لمراكز إيواء»، مؤكدا: «إن النتيجة الحسابية، 670 ألف طفل ضاع عليهم عامان دراسيان بالكامل، لافتا إلى أنه رغم أن الأمور تتحسن ببطء شديد جدا، ولكن التركيز الآن ينصب على صحة الطفل، أولا التطعيمات ثم التعليم، لأننا نحاول إنقاذ الجسد والعقل معا».

مدارس-غزة


كما أكد: «إن التحدى الأكبر الآن هو الحصار، فعندما أصبحت الحرب مشتعلة، كانت الحجة أن مواد التعليم ليست منقذة للحياة، والآن، توقفت الحرب- افتراضيا- لكن الجانب الإسرائيلى ما زال يمنع دخول القلم والكراسة، فهناك آلاف الأطنان من مواد التعليم مكدسة على الحدود المصرية والأردنية، تنتظر إذنا لا يأتى. العالم يتحدث عن التعليم، ونحن هنا ممنوعون من إدخال أدواته»

وأوضح «أبوخلف»: قبل أن نعلم الطفل الحروف، علينا أن نعلم روحه كيف تبتسم.. العودة للمدرسة- حتى لو كانت خيمة- هى الخطوة الأولى لترميم نفسية الطفل، فالتربويون رصدوا ظاهرة خطيرة أن 25% من أطفال غزة يعانون الآن من صعوبات فى النطق بسبب الصدمات، هؤلاء يحتاجون لعلاج نفسى قبل أن نطلب منهم القراءة. أولويتنا الآن هى تعليمهم الحروف، أو بالأحرى تذكيرهم بها بعد أن أنستهم إياها أصوات القنابل.

يعلق سامى الباقر، المتحدث باسم لجنة المعلمين السودانيين: «للأسف فقدت المدرسة رمزيتها كمكان آمن، فى حربنا هذه أصبحت المدارس إما ثكنات عسكرية، أو يتم قصفها كأهداف عسكرية لمجرد الاشتباه فى أن الطرف الآخر يستخدمها، هذه ليست تحليلات، بل وقائع. فى مدينة الأبيض بولاية شمال كردفان، قُصفت مدرسة وهى ممتلئة بطلابها، ومات فيها عدد كبير من الأطفال، وقبل يومين فقط، فى جنوب كردفان، استهدفت طائرة مُسيّرة مدرسة أخرى وقتلت مجموعة من الأطفال».

وأضاف: «استهداف المؤسسات التعليمية جريمة حرب مكتملة الأركان، لكن النتيجة على الأرض أن المدارس أصبحت «غير آمنة»، الأطفال الذين شاهدوا مناظر القتل والتعذيب وعاشوا الرعب، باتت نفسياتهم مشوهة. هؤلاء لا يصلح معهم السيستم التعليمى العادى، هم بحاجة لما يُعرف بـ«التعليم فى الطوارئ» الذى يركز على المعالجات النفسية والمهارات الحياتية، لأن التعليم التقليدى فى أوقات الحروب يصبح بلا جدوى»، وأضاف: «نحن لا نتحدث عن سنة صفرية، نحن أمام كارثة جيل كامل، الغياب الطويل عن المدرسة يعنى شيئا واحدا فى علم التربية «تناسبا طرديا مع التسرب النهائى».


 

المدارس بين القصف والدمار أو مأوى للنازحين

هل سمعت عن المستجير من الرمضاء بالنار؟ هذه هى رنا أحمد شاهدة جديدة على انهيار منظومة التعليم بسبب الحرب، ابنة غزة التى تزوجت قبل سنوات وانتقلت للعيش فى السودان، فنجاها القدر من أهوال غزة، لتجد نفسها بين نيران حرب السودان، وتروى لنا مشاهد وواقع أكثر سوءا، بعد أن نزحت داخليا مرتين هربا من القصف وفى كل مرة كانت تنجو بأعجوبة من موت محقق، حتى استقرت فى بورسودان، لا تملك شيئا، ولا تعرف أحدا، فكانت المدارس مأواها الوحيد هى وأولادها.

تحكى  «رنا» لـ«اليوم السابع» لحظات الخوف والتحدى، فى بورتسودان، قائلة: «لم تكن المدرسة مكانا للتعليم، بل كانت معسكرا للنازحين، الفصول امتلأت بالأسر، وبسبب الزحام الشديد وضعف النظافة وقلة الإمكانيات، تحولت المدارس لبؤرة أمراض، وجاءت «حمى الضنك» لتعذب الناس، ورأيت أطفالا يموتون بسببها حتى أنا وأولادى نجونا منها بستر الله. كانت الإغاثة تقدم الأكل والشرب، لكن المدرسة كانت تقدم المرض أيضاً».

وتضيف: «لم نتحمل الوضع، خرجنا واستأجرنا بيتا صغيرا بآخر ما نملك، وأولادى ضاعت عليهم سنة ونصف السنة من الدراسة بعد انتقالنا من مكان لمكان، ومن ولاية لولاية، وعندما حاولت بورتسودان فتح المدارس للطلاب المقيمين، بدأت السلطات فى إزاحة النازحين وتجميعهم فى زوايا معينة من المدرسة لإفراغ بعض الفصول للدراسة».

ومع الوقت كان المشهد مؤلما، عندما رأى أولادها أطفال بورتسودان يذهبون للدراسة بملابسهم، وهم ينظرون إليهم بحسرة، نازحون بلا أوراق، بلا شهادات، وبلا مال، إلى أن بدأنا خطوات إعادتهم للمدرسة بنظام خاص للنازحين، ولكن ظل الخوف يراودنى، والخوف هنا ليس من المنهج والدراسة بل من الضرب المفاجئ».

وتابعت: «السيناريو المرعب الذى يطارد كل أم نازحة هو ماذا لو قصفت المدرسة وأولادى بعيدون عنى؟ كيف سأجمعهم؟ هذا ليس وهما، هذا واقع حدث أمامنا، أسر سودانية نعرفها تشتت منذ سنتين، الأب فى مكان والأم فى مكان والأولاد ضاعوا وقت القصف ولم يجتمعوا حتى اليوم، لذلك أصبح بقاء الأولاد تحت عينى أهون ألف مرة من أن يضيعوا هم أنفسهم».

كيف اغتالت الحروب مستقبل عقول الأجيال العربية (2)

خسائر المبانى التعليمية تحتاج عقودا لإعادة ترميمها

الأزمة إذن تتخطى مجرد خروج طالب من مساره التعليمى يمكن عودته لاحقا، بل هو مصير مؤلم حتى للمبانى التى تحولت إما لحطام أو مأوى للنازحين يقدم مساعدة حياتية محدودة بدلا من العلم والتنوير، مصير لن يتغير ولو بعقود من الزمان، فرغم هدوء الأوضاع فى بعض المناطق بسوريا فى السنوات الأخيرة، فإن حطام المدارس ما زال شاهدا على الفراغ التعليمى، وتترجم أرقام اليونيسف هذا المشهد بدقة، فمن إجمالى 22 ألف مدرسة فى السودان، أكثر من 50% من مدارس السودان مغلقة تماما، ولا يوجد حصر محدد لعدد المدارس التى دُمرت، ولكن هناك 14 ألف مدرسة تأثرت بالحرب بنسب متفاوتة، بينما تم استخدام 6 آلاف مدرسة لإيواء النازحين، وفى قطاع غزة 95.2% من المبانى المدرسية فى غزة تضررت «537 من أصل 564 مدرسة»، 88% من المدارس تحتاج إلى إعادة بناء كاملة أو تأهيل جذرى قبل أن تصبح صالحة للاستخدام، وطال الضرر جميع المدارس، سواء الحكومية أو التابعة للأونروا، حيث 55% من المدارس الحكومية، و33% من مدارس الأونروا تحتاج إعادة بناء كاملة، وخلال الحرب باليمن تم  تدمير نحو 3 آلاف مدرسة بصورة كلية أو جزئية، بينما بلغ عدد المدارس المدمرة بشكل كلى أو جزئى فى سوريا ما يقارب 7400 مدرسة، فيما بلغ عدد المدارس التى تم ترميمها 156 مدرسة فقط.

الأرقام هنا لا تحصى مبانٍ سقطت فقط، بل مهارات تهاوت معها أيضا، فحتى الأطفال الذين تمكنوا من الجلوس أمام سبورة ما، خسروا- وفق تقديرات اليونيسف- ما يصل إلى 70% من مهارات القراءة والحساب بسبب الانقطاع الطويل، أى أن الطفل الذى توقف عامًا قد يحتاج عامين أو أكثر ليعود إلى المستوى نفسه. جيل كامل يتعلم لكنه لا يتعلم، يجلس على مقاعد خاوية من المعنى.

مدارس-ليبيا
 

 

تجنيد الأطفال.. حمل السلاح بدلا من القلم

هنا يدخل محمد دهمان، معلم سودانى وأب لولدين فرقتهما الحرب، ليرسم صورة مشاهد قاتمة فى شوارع أم درمان، التى خلت من سكانها إلا كما يقول من «نفرين أو ثلاثة» فى كل حارة، يرصد ظاهرة أخطر من توقف المدارس، «تغيير الهوية»، فيقول «دهمان» بصوت يعكس الصدمة: «فى الشوارع، لم نعد نرى أطفالا يلعبون الكرة. رأيت بعينى أطفالا صغارا يلفون رؤوسهم بقطع قماش ليقلدوا جنود الدعم السريع، ويصنعون ارتكازات وهمية فى الأحياء، حاملين أسلحة صنعوها من الخشب».

يضيف بأسى: «لقد نسوا قصة التعليم نهائيا، الاحتكاك اليومى بالجنود والمُسيَّرات وانتشار المخدرات والأسلحة الثقيلة وسط الأحياء السكنية غيّر فى تركيبة الأطفال وسلوكياتهم. تحول طموح الطفل من تلميذ إلى جندى أو تاجر، لأن المدرسة ببساطة لم يعد لها وجود».

يصف «دهمان» «الربكة» التى ضربت النظام التعليمى فى السودان بما يشبه «القفز فى الظلام»، ويقول: «حصلت ربكة تداخل مراحل، طفل فاتته سنتين دراسيتين فجأة يتم ترحيله لمستوى أعلى دون أن يدرس الأساسيات. ابنى عثمان كان فى الصف الأول الثانوى، وفجأة وجد نفسه فى الصف الثالث، ليستعد لامتحان الشهادة السودانية مباشرة!».

يشرح المعلم السودانى المعاناة الأكاديمية: «فى المسار الأدبى يمكن للطلاب الحفظ، لكن فى العلمى الكارثة أكبر، كيف لطالب أن يفهم الفيزياء والكيمياء وهو لم يدرس أساسياتها لعامين كاملين؟ هذا جيل يُدفع دفعا نحو شهادات ورقية بلا محتوى علمى حقيقى، وسط ندرة المعلمين الذين نزحوا أو هاجروا».

هذا المشهد الكارثى عن العنف والسلوك الذى يراه الأطفال يصفه دكتور علم الاجتماع، طه أبوحسين، الأستاذ بالجامعة الأمريكية بـ«المحاكاة البصرية»، ويوضح: «الإنسان ابن مشاهداته، الطفل الذى يقل عمره عن 12 عاما، وتتفتح عيناه يوميا على مشاهد الحرب والقتل، يتشرب بما نسميه سقايات العنف، هذه المشاهدات تتحول إلى مسلك شخصى»، مضيفا: «صحيح أن الطفل قد يرى المسلح يملك المال والمعلم فقيرا، لكن هذا قد لا يخلق قناعة دائمة، بل يخلق سلوكا عنيفا مؤقتا. الخطر هنا هو أن ما تم اكتسابه بمشاهدة العنف لا يمكن محوه إلا بمشاهدات مضادة من الاستقرار، وهو ما تفتقده مناطق الصراع حاليا».

ينتقل دكتور أبوحسين إلى تفنيد مصطلح «المراهقة المدرسية»، مشيرا إلى أن الكارثة ليست فى غياب المدرسة كمبنى، بل فى غياب مرحلة النضج الطبيعى، ويقول: «العمل الشاق فى مراحل الطفولة له تأثير مدمر، عندما ينتقل الطفل اضطراريا لمهن الكبار، من رعى، وزراعة، أو حتى حمل سلاح لحماية قطيع، فإنه يفقد حقه فى النضج المتدرج. القوانين تمنع عمل الأطفال، ليس رفاهية، بل لأن عقل الطفل لم يستوعب بعد معنى المسؤولية، إقحامه فى سوق العمل مبكرا يخلق شخصية مشوهة لم تأخذ حقها فى اللعب والتعلم».

كيف اغتالت الحروب مستقبل عقول الأجيال العربية (3)

خسائر اقتصادية عالمية تصل لـ10 تريليونات دولار سنويا

لم يكن خروج ملايين الأطفال العرب من التعليم مجرد أزمة مدرسية، بل تحولت الأزمة إلى نزيف اقتصادى عالمى تدفع ثمنه كل دولة، بغضّ النظر عن دخلها، بل بداية سلسلة انهيارات صامتة تتسع مثل دوائر الماء حول حجر ثقيل، فوفقًا لأحدث تقارير اليونسكو لعام 2024، يعيش العالم اليوم لحظة غير مسبوقة، حيث أكثر من 57% من أطفال الكوكب لا يمتلكون المهارات الأساسية التى تُمكّنهم من قراءة صفحة أو حل مسألة بسيطة.

تكشف البيانات أن هذا العجز فى المهارات لا يقف عند حدود الفصول الدراسية، بل يمتد ليضرب الاقتصاد مباشرة، فالتقديرات تشير إلى أن نقص المهارات يكلف العالم سنويًا 10 تريليونات دولار حتى العام 2030، بما يتجاوز الناتج المحلى فى فرنسا واليابان مجتمعين، والأخطر أن اليونسكو تربط بوضوح بين التسرّب المدرسى والانهيارات الاجتماعية مثل ارتفاع فى الجريمة، وزيادة فى الحمل المبكر، وتفاقم أزمة الشباب العاطلين عن العمل أو خارج دائرة التعليم والتدريب، وبالمقارنة بين المناطق، تبدو الفجوة صارخة، ففى أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى يعانى 94% من الأطفال من نقص المهارات الأساسية، بينما تصل النسبة فى الدول العربية إلى 74%، ما يضع المنطقة ضمن الأعلى عالميًا تكلفةً وخسارةً.

هذا ليس رقمًا تقنيًا باردًا، بل وصف دقيق لمستقبل يهرب من بين الأصابع، فحين يفقد طفل مهارات القراءة والحساب، يخسر المجتمع معه أكثر مما يتخيل، إذ تشير الحسابات العالمية إلى أن الدول العربية من بين أكثر المناطق خسارةً فى دخل العمل والإيرادات الضريبية نتيجة هذا التراجع، مما يعنى أن كل طفل خارج المدرسة اليوم يقتطع جزءًا من الناتج المحلى لغده قبل أن يكبر.

الأخطر أن تكلفة الجهل لا تُدفع نقدًا فقط، بل من أجساد الفتيات ومستقبل الأسر، فالفتيات اللاتى يتركن الدراسة مبكرًا ترتفع لديهن- وفقا لليونسكو- احتمالات الحمل المبكر بنسبة 67%، وتصل إلى 88% لمن لا يمتلكن المهارات الأساسية، فيما ترتفع معدلات الجريمة- من السرقات إلى الاعتداءات- بنسب قد تصل إلى 74% بين الفئات الأقل تعليمًا. إنها حلقة كاملة من الخسارة، طفل يخرج من المدرسة اليوم، وشاب بلا فرصة غدًا، ومجتمع يتراجع اقتصاديًا واجتماعيًا بعد سنوات قليلة، وهكذا تصبح الحرب ليست مجرد قصفٍ لمدرسة، بل قصف لاقتصادٍ كامل ومستقبل بكامله.

كيف اغتالت الحروب مستقبل عقول الأجيال العربية (4)

الخسائر في «مهارات التعلم»:

فقدان
 70%
 من مهارات القراءة والحساب بسبب الانقطاع الطويل
 
25%
 من أطفال غزة يعانون صعوبات نطق نتيجة الصدمات النفسية
 
 

اللجوء.. فرص غير متكافئة وضياع للهوية الوطنية

وفى ظل هذا الألم، ظهر اللجوء إلى دول الجوار كحل بديل لمن يستطيع إليه سبيلا، حيث يروى الأب والمعلم دهمان أن الحرف فرقت بين ابنيه أحدهما ذهب مع أمه لولاية آمنة واستطاع استكمال تعليمه، والآخر بقى مع الأب، وظل يردد عليه يوميا نفس السؤال بنفس المرارة: «يا أبوى، ولد عمى مشى القاهرة وقاعد يقرأ، أنا هسى أعمل شنو؟»، فتلك المقارنة القاتلة بين من حالفهم الحظ بالهرب إلى مصر، وبين من بقوا عالقين فى «اللا حرب واللا سلم» فى السودان، خلقت حالة من الاستياء النفسى العميق لدى الطلاب، حتى الحلول الداخلية كانت محفوفة بالمخاطر، يروى «دهمان» كيف اضطروا لتهريب تلاميذ المرحلة المتوسطة إلى «ولاية الجزيرة» فقط لكى يلحقوا بالامتحانات، فى رحلة محفوفة بالمخاطر لمجرد الوصول لقاعة امتحان، ليعودوا بعدها للانتظار المجهول لنتائج لم تظهر، ولعام دراسى لا أحد يعرف متى يبدأ أو ينتهى».

وهنا يكمل المشهد «الباقر» المتحدث باسم المعلمين السودانيين، قائلا: «حتى فى النزوح واللجوء، هناك فوارق طبقية تحدد مصير الطفل التعليمى.. الأطفال الذين نزحوا لولايات أخرى داخل السودان يتلقون تعليما بنسبة تسرب أقل، لكن المشكلة فى الخارج، فمن لجأوا إلى مصر كانوا أوفر حظا، فغالبيتهم من الطبقة المقتدرة، أو لديهم عائل مغترب فى الخليج أو أوروبا يرسل لهم الأموال، وبالتالى يستطيعون تحمل تكلفة المراكز التعليمية السودانية الموجودة بكثرة هناك.

 

وأضاف: «لكن بالنظر للآخرين الذين لجأوا إلى تشاد.. هؤلاء هربوا بسبب الصراع المباشر، خرجوا فى ظروف قاسية جدا ويعيشون فى معسكرات، وبالتالى تعليمهم هناك يواجه مشكلة حقيقية، أما من ذهبوا لأوغندا وكينيا وإثيوبيا، فيواجهون جحيم اللغة وعدم وجود مراكز سودانية كافية. الطفل هناك يضيع لأنه لا يملك المال للمدارس الخاصة، ولا يملك اللغة للاندماج فى المدارس الحكومية لتلك الدول».

هؤلاء الأطفال قد يكونوا نجوا من أخطار الحرب لكنهم خرجوا من التعليم بلا عودة، وتأثير ذلك عليهم لو تعلمون عظيم.

يقول الدكتور أبوحسين: «إن الخطر الحقيقى فى مخيمات اللجوء سواء فى تشاد أو لبنان مثلا، ليس فقط فى غياب التعليم، بل فى «تزييف الوطن». الطفل الذى ينشأ فى خيمة لجوء، وتشعر الدولة المضيفة بأنه عالة عليها، لن تتشكل لديه أى هوية وطنية، وطنه الحقيقى سيصبح لقمة العيش، وانتماؤه سيكون للخيمة التى تؤويه مؤقتا، فنحن نصنع جيلا ولاؤه الوحيد هو للبقاء، وهذا ولاء مؤقت وهش، لا يرقى أبدا لمفهوم الانتماء الوطنى، مما يجعله عرضة لأى استقطاب مستقبلى».

 

حزام من الجهل يحيط المنطقة العربية

لم تكن الأزمات التى ضربت المنطقة العربية مجرد اضطرابات عابرة، بل كانت موجة عاتية محَت فى سنوات قليلة ما بُنى بصعوبة على مدار نصف القرن، فعندما أعدنا تحليل البيانات المجمّعة من البنك الدولى، وتقارير اليونيسف حول مسار التعليم خلال العقدين الماضيين، بدت الأرقام كأنها تسرد قصة انهيار مكتمل الأركان. المنطقة التى خاضت معركة شاقة لخفض عدد الأطفال خارج المدارس من 16.5 مليون فى عام 2005 إلى 13.9 مليون فى 2010، وجدت نفسها تُسقط تلك المكاسب من يدها فجأة، خلال سنوات قليلة، قفز الرقم إلى 15 مليونًا فى 2015، قبل أن يبلغ ذروته فى 2025 بنحو 30 مليون طفل، وكأن الزمن أعاد المنطقة إلى نقطةٍ تسبق الصفر، حيث محاولات البناء الأولى لم تبدأ بعد.

عند التوقف أمام الأرقام، يتضح أن المشكلة ليست فى الزيادة وحدها، بل فى سرعة الارتداد، فخلال عَقد كامل 2000-2010، احتاجت المنطقة إلى 10 سنوات كاملة كى تخفض 6 ملايين طفل من قائمة «خارج المدرسة»، أى متوسط تحسن سنوى يقارب 600 ألف طفل، لكن الانهيار بعد 2010 لن يحتاج سوى خمس سنوات فقط ليمحو كل ما تحقق، ويضيف فوقه خسارة جديدة، إذ قفز العدد إلى 21 مليونًا بحلول 2015، بمعدل تدهور يقارب 2.4 مليون طفل سنويًا، وهذا يعنى أن وتيرة التراجع كانت أسرع بأربعة أضعاف تقريبًا من وتيرة التقدم السابقة.

ثم جاءت مرحلة 2015-2025، التى تُظهر أخطر تحول، فخلال 10 سنوات فقط، أضيف 9 ملايين طفل جديد إلى قائمة الإقصاء التعليمى، ليصل العدد إلى 30 مليونًا، وهو رقم لا يعكس أزمة تعليم فقط، بل تحول فى بنية الأزمات نفسها، من صراعات محلية محدودة إلى أزمات إقليمية ممتدة شملت حروبًا، وانهيارات اقتصادية، ونزوحًا واسعًا، جعلت التعليم أول ضحاياها وأكثرها صمتًا، بهذا المعنى، تكشف الأرقام أن المنطقة لم تعد فقط إلى نقطة البداية، بل تخطتها إلى الوراء، فى أسوأ انتكاسة تعليمية تشهدها منذ 50 عامًا.

وهنا يؤكد المحلل السياسى السودانى إسماعيل شريف: «فى فوضى الحرب، يتعذر الإحصاء الدقيق، لكننا لا نتحدث هنا عن مئات الآلاف، نحن نتحدث عن ملايين الطلاب، فالسودان بلد فتى، قاعدة الهرم السكانى فيه هى الأعرض، إذا كان عدد السكان بضعا وثلاثين مليونا، فإن أكثر من 20 مليونا منهم هم أطفال ويافعون فى سن التعليم. عندما تتوقف المدارس، فهذا يعنى أن ثلثى الشعب السودانى أصبح خارج التغطية المعرفية».

وحذر:«الإنسان بلا تعليم هو مشروع إنسان مدمر، ما نراه اليوم من بشاعة فى الحرب السودانية هو حصاد سنوات من الجهل المجتمعى الذى تركته الدولة ينمو فى الأطراف، والطرف الآخر فى الحرب يرتكز فى تجنيده للأطفال على استغلال أميتهم وجهلهم، لو كانت الدولة قد اهتمت بتعليم هذه الشرائح المهمشة فى مناطق النزاع قبل سنوات، لما وجدنا اليوم طفلا يحمل السلاح ويقتل بدم بارد، فالفراغ الذى يعيشه الطفل الآن، إذا لم نملأه بالتعليم، سيملأه أمراء الحرب بالرصاص».

نعم، انهيار التعليم ليس مجرد أزمة أكاديمية، بل هو ضربة قاتلة لمفهوم «الدولة الوطنية».. هذا ما يراه هانى الأعصر، الخبير فى الشؤون السياسية والاستراتيجية ومدير المركز الوطنى للدراسات، حيث يقول: «الانتماء للدولة لا يولد معنا، بل يُصنع داخل الفصول الدراسية وعبر وسائل الإعلام. وعندما يتسرب الملايين من التعليم، فإنهم لا يتلقون الرسائل التى تربى بداخلهم الولاء للوطن».

وأضاف: «النتيجة الحتمية هى تراجع الانتماء للدولة، وصعود الولاءات التحتية، سيبدأ الفرد بالانتماء للقبيلة، للعائلة، للحى، أو للعصبية الدينية. عندما تغيب الدولة كمعلم ومربٍّ، تحل محلها العصبيات الضيقة»، ويحذر «الأعصر» من أن استعادة هذا الولاء لاحقا فقد تكون «مهمة مستحيلة»، لأن التنشئة الوطنية إذا لم تحدث فى سن معينة، فإن إصلاح الشرخ يصبح فى غاية الصعوبة.

ينتقل «الأعصر» للحديث عن البعد الدولى للأزمة، مؤكدا أن أوروبا ستدفع الثمن أيضا، موضحا: «انتشار الجهل يخلق بيئة طاردة للكفاءات أو هجرة الأدمغة، وفى نفس الوقت يدفع بالجهلة الذين لا يتحملهم سوق العمل المحلى إلى ركوب البحر بحثا عن أى فرصة فى الشمال، ونصبح أمام موجة هجرة مزدوجة.. الكفاءات تهرب من بيئة الجهل، والجهلة يهربون من البطالة».

وتابع «الأعصر»: «الجهل يغذى العنف السياسى ويقتل أى فرصة للتحول الديمقراطى أو الحكم الرشيد، الأخطر من ذلك هو أن التنظيمات الإرهابية والدول التى تمولها ستجد فى هذا الجيش من الجهلة مخزونا بشريا لا ينضب للتجنيد، الشاب الجاهل العاطل وفاقد الهوية الوطنية، هو الصيد الأسهل لأى تنظيم متطرف يبحث عن أدوات لتنفيذ عملياته، المنطقة مهددة بالبقاء فى حالة نكبة دائمة من الصراعات المسلحة وتصاعد الإرهاب».

مدارس-السودان2

طوق نجاة.. هل تنجح «البدائل»؟

وسط هذا الركام، يحاول البعض إشعال شموع صغيرة لتبديد ظلام الجهل، عبر مبادرات فردية أو دولية، تتراوح بين الخيام البدائية والحلول الرقمية المتطورة، ففى سوريا، تقف المعلمة «رديفة» «40 عاما» كأيقونة للصمود، حيث حولت خيمتها بدعم من صندوق «التعليم لا يمكن أن ينتظر» ومنظمة اليونيسف، إلى فصل دراسى يعلم الأطفال باللعب، تقول «رديفة»: «أتمنى أن يغادر الأطفال الخيام»، لكنها تدرك أن خيمتها هى الحصن الأخير لحماية 2.4 مليون طفل سورى من الشارع.

وفى غزة، حاولت ابنة «أم عدى» استنساخ التجربة، فأطلقت مبادرة تعليمية بجهود ذاتية فى شمال القطاع، ونجحت لدرجة نيل جائزة عربية، لكن الحرب لا ترحم المبادرات، فمع تجدد القصف، فقدت المعلمة الشابة خيمتها ومقاعدها وسبورتها، التى اشترتها من مالها الخاص، ليعود طلابها إلى المربع الأول «النزوح».

وعلى الضفة الأخرى من النهر، تطرح مؤسسات دولية وإقليمية مبادرات وحلول رقمية، لتعليم اللاجئين عن بعد، ورغم نبل الفكرة، يصطدم الواقع الميدانى بعقبات «لوجستية» قاتلة.
يفند كاظم أبوخلف «اليونيسف» هذه الحلول فى سياق غزة قائلا: «الحديث عن التعليم الرقمى فى غزة ترف غير واقعى، التعليم الرقمى يحتاج ألواحا إلكترونية وهى شحيحة جدا، وإن توفرت تحتاج لإنترنت، فى حين البنية التحتية مدمرة، وإن توفر الإنترنت يحتاج لكهرباء والشبكة منهارة، وإن اعتمدنا على المولدات فهى تحتاج لوقود، الذى يدخل بنسبة 45% فقط من الاحتياج».

وأضاف: «إنها دائرة شريرة مغلقة، حتى لو دخل الوقود، فالأولوية ستكون للمستشفى لإنقاذ جريح، وليس للمدرسة لشحن تابلت، التعامل مع هذا الواقع يحتاج لأكثر من مجرد شعارات رقمية، يحتاج لرفع الحصار، فالتعليم الرقمى ترف غير واقعى حاليا».

 

مدارس تحت الشجر

وفى السودان، يطرح خبراء محليون العودة إلى «جذور التعليم» كحل إسعافى، كما يقول المحلل السودانى إسماعيل شرف، الرجوع إلى تعليم الرحل، قائلا: «العودة لتجربة مدارس تحت الشجر التى عرفها السودان فى مناطق الرحل، حيث لا يحتاج الأمر سوى معلم، وسبورة، وظل شجرة، وبرامج إسراع تعليمى تدمج العامين فى عام واحد، تنقذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان».

مدارس-سوريا

فى حين يرى دكتور علم الاجتماع «أبوحسين»: «نعم، هناك تعليم عرضى من خلال الحياة والمهن، والعقاد لم يدخل جامعة، لكن هذا استثناء لا قاعدة، بينما تعلم الفيزياء والكيمياء والعلوم الحديثة يحتاج مؤسسة، المدارس لا تعلمنا العلم فقط، بل تعلمنا الانضباط الاجتماعى، وغياب المدرسة يعنى غياب المصنع الذى ينتج مواطنا منضبطا، ويترك المجال للشارع والظروف ليشكلا وعى الطفل بعشوائية، فالمدرسة ليس لها بديل».


وبين خيمة «رديفة» الصامدة فى سوريا، وخيمة ابنة «أم عدى» التى دمرت فى غزة، وأحلام «التابلت» التى تصطدم بانقطاع الكهرباء، يبقى المشهد قاتما، لكنه ليس يائسا تماما، ربما يستحق اجتماعا إقليميا- بنفس مستوى مؤتمرات إعادة الإعمار- يجلس فيه الجميع من مؤسسات دولية وأممية ودول ذات اقتصادات قوية تمول المبادرات، يجب أن يتكاتف الجميع، خاصة أنه ما زالت هناك رغبة لدى الجميع باللحاق بركب التعليم قبل أن نفقده للأبد، ويتجلى هذا فى مراكز الإيواء بغزة، حيث يرسم الأهالى كل صباح مشهدا سرياليا للأمل، إذ تخرج العائلات النازحة بأكملها للشارع، لتخلى الفصول الدراسية للطلاب لبضع ساعات، ثم يعودون للنوم فيها ليلا، هؤلاء البسطاء يضحون بمأواهم الوحيد لكى يتعلم أبناؤهم حرفا واحدا، مدركين بفطرتهم ما حذر منه الخبراء.. «إن التعليم ليس مجرد شهادة، بل هو طوق النجاة الأخير لمنع تحول الجيل القادم إلى قنبلة موقوتة لا تتقن إلا لغة العنف».

p

 




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة