ذكرى ميلاد البابا تواضروس تستعيد رحلة عطية الله.. نشأة هادئة صنعت قائدا روحيا.. القرعة تختاره يوم ميلاده الستين.. العلم والرهبنة يشكلان ملامح شخصيته ومؤلفات ترسخ حضوره الفكرى.. ومواقف وطنية تحفظ وحدة المصريين

مسيرة البابا تواضروس الثاني ليست سيرة شخصية فحسب، بل شهادة على مسار متكامل يجمع العلم والرهبنة والقيادة الحكيمة، ومع اقتراب شهر نوفمبر، تحل ذكرى ميلاد البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، الذي وُلد في الرابع من نوفمبر عام 1952 بمدينة المنصورة بمحافظة الدقهلية.

حمل قداسة البابا منذُ مولده اسم "وجيه صبحي باقي سليمان" قبل أن يمنحه مسار البطريركية اسمه الكنسي "تواضروس" الذي يعني "عطية الله"، ليبدأ رحلة امتدت من العلوم والصيدلة إلى الرهبنة ثم القيادة الروحية، جامعًا بين العقل الباحث والقلب المكرس للخدمة.

نشأة البابا تواضرس ومسيرته

نشأ في أسرة قبطية متدينة ارتبطت بالكنيسة، وكان من بين أفراد العائلة عدد من الآباء الكهنة والإكليروس. والده كان يعمل مهندسًا ووالدته ربة منزل، وله شقيقتان أصغر منه. منذُ سنواته الأولى لاحظ المحيطون به ميله للهدوء والدراسة والتأمل، وهو ما انعكس لاحقًا على مسيرته التعليمية والروحية.

حصل في عام 1975 على بكالوريوس العلوم في الصيدلة، ثم على منحة من جامعة الإسكندرية لدراسة دبلومة في الصيدلة الصناعية عام 1979. لم يكتفِ بالتخصص العلمي بل اتجه إلى دراسة اللاهوت، فحصل عام 1983 على شهادة كلية اللاهوت بالإسكندرية، ثم حاز زمالة الصحة العالمية من منظمة الصحة العالمية عام 1985 لدراسة مراقبة الجودة في تصنيع الدواء من في أكسفورد بإنجلترا.

وفي عام 1999 درس الإدارة الكنسية في معهد هاجاي بسنغافورة، ثم منحته جامعة بني سويف الدكتوراه الفخرية في مارس 2015 تقديرًا لدوره في تعزيز السلم الاجتماعي.

قبل أن يتجه لـ الحياة الرهبانية، عمل في وزارة الصحة وتدرج في المناصب حتى تولى إدارة أحد مصانع الأدوية، قبل أن يقدم استقالته بعد عشر سنوات وعشرة أشهر وعشرة أيام من العمل.

بداية دخول الحياة الرهبانية

في أغسطس 1986 اتخذ قراره المصيري بالالتحاق بدير الأنبا بيشوي بوادي النطرون، وترهب باسم الراهب ثيؤدور الأنبا بيشوي في يوليو 1988. وبعد نحو عامين، بدأ خدمته كراهب كاهن في إيبارشية البحيرة ومطروح والخمس مدن الغربية في فبراير 1990، قبل أن تتم رسامته أسقفًا عامًا في يونيو 1997 لخدمة الشباب ومساعدة الأنبا باخوميوس، كما تولى مسؤولية لجنة الطفولة بالمجمع المقدس.

القرعة الهيكلية تصادف عن ميلاده الستين

في الرابع من نوفمبر عام 2012، وهو نفس يوم عيد ميلاده الستين، اختير بالقرعة الهيكلية ليكون البطريرك الـ118 لـ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ثم جرت مراسم تجليسه في الثامن عشر من الشهر ذاته في احتفال كنسي مهيب شارك فيه الآلاف من الأساقفة والكهنة والشمامسة وممثلي الكنائس حول العالم والشخصيات العامة.

مؤلفات روحية مؤثرة ودور وطني بارز

إلى جانب مسيرته الكنسية، عُرف البابا تواضروس الثاني بغزارة إنتاجه الفكري، إذ ألف أكثر من 34 كتابًا في مجالات الكتاب المقدس والحياة الروحية والفنون الكنسية والخدمة والعمل الرعوي.

وعلى الصعيد الوطني، كان لصوته أثر بالغ في الحفاظ على الوحدة الوطنية، خاصة خلال أحداث صعبة شهدتها البلاد. شارك في بيان الثالث من يوليو عام 2013، وساند إرادة الشعب المصري في ثورة الثلاثين من يونيو.

كما استقبل رؤساء وملوكًا وشخصيات عالمية عدة، من بينهم الرئيس الفلسطيني محمود عباس، والعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، ورؤساء لبنان والعراق والبحرين، إلى جانب شخصيات دولية بارزة.

لم يغب حضوره عن المحافل الوطنية، فشارك في الاستفتاء على الدستور واحتفالات الدولة الرسمية، وشهد أداء الرئيس عبد الفتاح السيسي لليمين الدستورية.

كما وقع بروتوكولات تعاون عديدة، أبرزها مع المجلس الأعلى للجامعات في مشروع محو الأمية، ومع مركز الأهرام للحضارة، ومع وزارة الري لحماية النيل.

وتستقبل الكنيسة القبطية وعلى رأسها البابا تواضروس سنويًا الرئيس في الكاتدرائية لتقديم تهنئة الأقباط بالعيد، وحضر مؤتمرات الشباب والمشروعات القومية الكبرى مثل افتتاح قناة السويس الجديدة.

وبين ميلاده ونشأته ودراسته ورهبنته وبطريركيته، تبقى ذكرى مولده هذا العام فرصة لاستعادة رحلة عنوانها العطاء المتصل، والتوازن بين العقل والإيمان، والقدرة على أن يكون الصوت الهادئ حاضرًا.