ناقش باحثون ومتخصصون في معرض الشارقة الدولي للكتاب مسار انتقال المعرفة اليونانية إلى العربية، وأسباب تبني العلماء المسلمين لها، وكيف أعادوا صياغتها حتى أصبحت جزءًا من نسيج الفكر الإسلامي وركيزة في نشأة العلوم والفلسفة.
جاء ذلك خلال ندوة حوارية بعنوان "المعرفة اليونانية بالعربية: لماذا، وماذا، وكيف؟"، بمشاركة الدكتور سعيد فايق، والدكتور ماركو زوكاتو، والدكتورة نهى الشعار من الجامعة الأمريكية في الشارقة.
الترجمة مشروع نهضة
وأشار الدكتور سعيد فايق، إلى أن حركة الترجمة إلى العربية لم تكن فعلاً لغويا فحسب، بل مشروعا حضاريا مرتبطا بتكوين الهوية الفكرية للمسلمين، موضحًا أن الانفتاح على المعارف بدأ مبكرا في صدر الإسلام بدافع طلب العلم وفهم العالم، وأشار إلى أن العصر العباسي مثل منعطفاً كبيرا حين تحول بيت الحكمة في بغداد إلى مركز عالمي تنقل إليه النصوص من الفارسية والهندية والسريانية واليونانية، مؤكدا أن العرب لم يتعاملوا مع الترجمة بصورة حرفية جامدة، بل كإعادة صياغة ثقافية ومعرفية، وهو ما أسهم في حفظ التراث اليوناني ومن ثم نقله إلى أوروبا لاحقاً.
خلفيات تاريخية وسياسية
من جانبه، تناول الدكتور ماركو زوكاتو البعد السياسي للترجمة، موضحا أن تبني العباسيين للمعارف اليونانية جاء في سياق تشكيل هوية فكرية جديدة للدولة بعد عام 750، وذكر أن الترجمة الأولى لم تكن من اليونانية مباشرة، بل من الفارسية، وأن إدماج النصوص اليونانية جاء لاحقاً ضمن مشروع ثقافي هدفه بناء دولة مركزية قوية.
ولفت زوكاتو إلى أن العلماء المسلمين لم يتوقفوا عند حدود النقل، بل تجاوزوها إلى النقد والإضافة، فشكك الرازي في آرائهم الطبية، وانتقد ابن الهيثم بطليموس، وتناول ابن سينا تصنيفات أرسطو بالمراجعة، ورأى أن توقف حركة الترجمة في القرن العاشر كان دليلاً على نضج معرفي أنتج علماً خاصاً بالحضارة الإسلامية وتقنيات متقدمة مثل تطوير الأسطرلاب والآلات الفلكية.
الأخلاق والفلسفة… تفاعل لا نقل
أما الدكتورة نهى الشعار، فأوضحت أن التأثير الحقيقي للتراث اليوناني لم يكن في النصوص وحدها، بل في الطريقة التي هضم بها العلماء المسلمون هذه المعارف داخل بيئة عربية إسلامية حساسة للبعد الأخلاقي، مشيرة إلى أن ترجمة "الأخلاق النيقوماخية" لأرسطو، ونصوص "نواطر الفلاسفة"، أسهمت في نشوء ما عرف بـ "الأدب الفلسفي" الذي دمج بين الحكمة والتهذيب الأخلاقي وصياغة القيم، وقدمت أمثلة من كتابات أبي حيان التوحيدي وإخوان الصفا، مبينة كيف تحولت مفاهيم مثل الفضيلة والصداقة إلى مشروع تربوي يهدف إلى إصلاح الإنسان والمجتمع، لا مجرد شرح للنصوص اليونانية.
جسر بين الحضارات
وأكد المتحدثون أن انتقال المعرفة اليونانية إلى العربية كان لحظة فارقة في تاريخ الفكر الإنساني، وأسهم في إحياء التراث القديم وإعادة صياغته، قبل أن ينتقل إلى أوروبا ويصبح أحد أسس نهضتها العلمية، مشيرين إلى أن دراسة هذا الإرث اليوم تساعد على فهم مسار تشكل الأفكار، وكيف يمكن للثقافات أن تتفاعل وتزدهر حين تنفتح على الآخر بعيداً عن الخوف والانغلاق.