سعيد الشحات يكتب: ذات يوم.. 14 نوفمبر 1889.. مولد طه حسين الذى فقد عينيه بعلاج الحلاق بعد أربع سنوات ليعيش بإرادته القوية ومحاولاته لاستكشاف ما لا يعرفه المبصرون

الجمعة، 14 نوفمبر 2025 10:00 ص
سعيد الشحات يكتب: ذات يوم.. 14 نوفمبر 1889.. مولد طه حسين الذى فقد عينيه بعلاج الحلاق بعد أربع سنوات ليعيش بإرادته القوية ومحاولاته لاستكشاف ما لا يعرفه المبصرون طه حسين

سعيد الشحات

كان الوقت فجرا أو فى العشاء يوم، 14 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1889 حين ولد طه حسين فى عزبة «الكيلو»، مركز مغاغة، محافظة المنيا، وضعته أمه فى أحد هذين التوقيتين، حسبما يوثقه هو فى سيرته «الأيام»، مؤكدا أنه «لا يذكر ليوم مولده اسما، ولا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنة، بل لا يستطيع أن يذكر من هذا اليوم وقتا بعينه، وأكبر ظنه أنه كان يقع من ذلك اليوم فى فجره أو فى عشائه، لأن وجهه تلقى فى ذلك الوقت هواء فيه شىء من البرد الخفيف الذى لم تذهب به حرارة الشمس».

رأى طه بعينيه أربع سنوات حتى أصابه الرمد، فأهمل أياما، ثم عالجه الحلاق علاجا ذهب بعينيه عام 1893، ليبدأ رحلته وفى ذاكرته ما رآه قبل فقد بصره، وكان عليه أن يطوع نفسه مع حالته الجديدة، وفعل ذلك بألم ومعاناة يعبر عنهما قائلا، أنه كان سابع ثلاثة عشر من أبناء أبيه «حسين على سلامة»، وخامس أحد عشر من أشقائه، وأنه «كان يشعر بأن له بين هذا العدد الضخم من الشباب والأطفال مكانا خاصا يمتاز من مكان إخوته وأخواته، وكان يحس من أمه رحمة ورأفة، وكان يجد من أبيه لينا ورفقا، وكان يشعر من أخوته بشىء من الاحتياط فى تحدثهم إليه ومعاملتهم له، ولكن كان يجد إلى جانب هذه الرحمة والرأفة من جانب أمه شيئا من الإهمال أحيانا ومن الغلظة أحيانا أخرى، وكان يجد إلى جانب هذا اللين والرفق من أبيه شيئا من الإهمال أيضا، وكان احتياط إخوته وأخواته يؤذيه، لأنه كان يجد فيه شيئا من الإشفاق مشوبا بشىء من الازدراء.

تبين له فيما بعد سبب هذا كله، فقد أحس أن إخوته وأخواته يستطيعون ما لا يستطيع، وينهضون من الأمر ما لم ينهض به، وأحس أن أمه تأذن لإخوته وأخواته فى أشياء تحظرها عليه، وكان ذلك يحفظه، ولكن لم تلبث هذه الحفيظة أن استحالت إلى حزن صامت عميق، ذلك أنه سمع إخوته يصفون ما لا علم له به، فعلم أنهم يرون ما لا يرى. 

يؤكد أنه كان من أول أمره صمم أن يستكشف ما لا يُعلم، ما كلفه كثيرا من الألم والعناء، ولكن حادثة واحدة حددت ميله إلى الاستطلاع، وملأت قلبه حياء لم يفارقه، كان جالسا إلى العشاء بين أخواته وأبيه، وأمه كعادتها تشرف على حفلة الطعام، وترشد أخواته اللائى كن يشاركن الخادم فى القيام بما يحتاجون إليه، وكان يأكل كما يأكل الناس، ولكن لأمر ما خطر له خاطر غريب، ما الذى يقع لو أنه أخذ اللقمة بكلتا يديه بدل أن يأخذها كعادته بيد واحدة؟ وما الذى يمنعه من هذه التجربة؟

نفذ تجربته وأخذ اللقمة بكلتا يديه وغمسها من الطبق المشترك ثم رفعها إلى فمه، فغرق إخوته فى الضحك، وأجهشت أمه بالبكاء، وقال أبوه فى صوت هادئ حزين: ما هكذا تؤخذ اللقمة يا بنى، ولم يعرف هو كيف قضى ليلته، وترك ما جرى أثره عليه، فتقيدت حركاته بشيء من الرزانة والإشفاق والحياء، ويذكر أنه «من ذلك الوقت عرف لنفسه إرادة قوية، وحرم على نفسه ألوانا من الطعام لم تبح له إلا بعد أن جاوز الخامسة والعشرين، حرم على نفسه الحساء والأرز وكل الألوان التى تؤكل بالملاعق، لأنه كان يعرف أنه لا يحسن اصطناع الملعقة، وكان يكره أن يضحك إخوته، أو تبكى أمه، أو يعلمه أبوه فى هدوء حزين، كما حرم على نفسه ألوان من اللعب والعبث إلا ما لا يكلفه عناء، ولا يعرضه للضحك أو الإشفاق، فكان أحب اللعب إليه أن يجمع طائفة من الحديد وينتحى بها زاوية البيت، فيجمعها ويفرقها ويقرع بعضها ببعض، ينفق فى كل ذلك ساعات، حتى إذا سئم وقف على أخواته أو أترابه وهم يلعبون  فيشاركهم فى اللعب بعقله لا بيده.

أدى انصرافه عن هذا العبث إلى أن يحب لونا مختلفا من اللهو، وهو الاستماع إلى القصص والأحاديث، وإنشاد الشاعر، وحديث الرجال إلى أبيه والنساء إلى أمه، ومن هنا تعلم حسن الاستماع.

كما كان هناك عامل آخر ساهم فى تكوينه، مصدره نساء القرى، فإذا خلون إلى أنفسهن يذكرن آلامهن وموتاهن فيعددن، وكثيرا ما ينتهى هذا التعديد إلى البكاء، ويعترف أنه كان أسعد الناس بالاستماع إلى أخوته وهن يتغنين، وأمه وهى تعدد، وكان غناء إخوته يغيظه ولا يترك فى نفسه أثرا، لأنه يجده سخيفا لا يدل على شىء، فى حين كان تعديد أمه يهزه هزا عنيفا، وكثيرا ما يبكيه، وعلى هذا النحو حفظ كثيرا من الأغانى، ومن التعديد والقصص وهزله، وحفظ الأوراد التى كان يتلوها جده الشيخ الضرير، وكان أهل القرية يحبون التصوف ويقيمون الأذكار، وكان يحب منهم ذلك، لأنه كان يلهو بهذا الذكر، وبما ينشده المنشدون.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة