"لقد حاولت أن أكون صوتًا لمن لا صوت لهم" بهذه العبارة لخّص إدوارد سعيد الذي تمر اليوم ذكرى ميلاده، إذ ولد في 1 نوفمبر عام 1935، رسالته الفكرية والإنسانية التي خلدته في ذاكرة العالم، كأحد أبرز العقول الفكرية في القرن العشرين، وصاحب البصمة الأكثر تأثيرًا في دراسات الثقافة والسياسة والنقد الأدبي.
وُلد إدوارد سعيد عام 1935 في مدينة القدس لعائلة فلسطينية مسيحية بروتستانتية، وكان والده قد خدم في الجيش الأمريكي، ما منح العائلة الجنسية الأمريكية لاحقًا. تلقى تعليمه الأولي في مدرسة القديس جورج الأنجليكانية بالقدس عام 1947، ثم انتقل إلى كلية فيكتوريا بالإسكندرية في مصر، قبل أن يتابع دراسته الثانوية في نورثفيلد ماونت هيرمون بولاية ماساتشوستس الأمريكية، حيث أظهر نبوغًا لافتًا في اللغات والآداب.
تابع دراسته الجامعية في جامعة برنستون، ثم حصل على درجة الدكتوراه في الأدب المقارن من جامعة هارفارد، قبل أن يبدأ مشواره الأكاديمي الطويل في جامعة كولومبيا بنيويورك، حيث شغل منصب أستاذ الأدب الإنجليزي المقارن حتى وفاته.
المفكر والمناضل
لم يكن إدوارد سعيد مجرد أكاديمي يدرّس النصوص، بل كان مفكرًا جمع بين الفكر والنضال، فقد دافع بشجاعة عن الحقوق الفلسطينية في قلب المجتمع الأمريكي، وشارك في مظاهرات ومؤتمرات دولية للدفاع عن استقلالية الشعب الفلسطيني. وبفضل مواقفه تلك، لُقّب بـ "الصوت الأقوى من أجل فلسطين".
كان يرى أن الثقافة لا تنفصل عن السياسة، وأن الكلمة قادرة على مقاومة الظلم مثلها مثل السلاح، فحوّل قلمه إلى منبر للدفاع عن قضايا العرب والمسلمين، وانتقد السياسات الغربية تجاه الشرق والعالم الثالث.
كتاب "الاستشراق" عمل غيّر وجه الدراسات الغربية
اكتسب سعيد شهرته العالمية بصدور كتابه الشهير "الاستشراق" عام 1978، وهو العمل الذي أحدث ثورة فكرية في فهم العلاقة بين الشرق والغرب. في هذا الكتاب، كشف سعيد كيف شكّلت الدراسات الغربية عن الشرق صورة مشوّهة وموجَّهة سياسيًا، تخدم مصالح الإمبراطوريات الاستعمارية.
اعتبر أن الاستشراق لم يكن مجرد دراسة علمية أو أكاديمية، بل أداة من أدوات السيطرة، تهدف إلى فرض الهيمنة الثقافية على الشرق. وقد استند في أطروحاته إلى الفكر البنيوي وما بعد البنيوي، مستلهمًا أعمال ميشيل فوكو وجاك دريدا، ليبني رؤية نقدية تربط بين المعرفة والسلطة.
أحدث الكتاب هزة فكرية في الجامعات الغربية، وأعاد تشكيل مسار الدراسات الثقافية، حتى أصبح يُعدّ من أهم الكتب الفكرية في القرن العشرين، ووُضع اسم إدوارد سعيد ضمن قائمة أكثر عشرة مفكرين تأثيرًا في العالم.
مؤلفات وأثره الإنساني والفكري
لم يقتصر إبداع سعيد على النقد السياسي والثقافي، بل كتب أيضًا عن الموسيقى الكلاسيكية، حيث كان عازف بيانو هاويًا وناقدًا موسيقيًا بارعًا. ومن أبرز أعماله الأخرى: الثقافة والإمبريالية (1993)، تغطية الإسلام (1981)، بدايات: المقصد والمنهج (1975)، خارج المكان (1999) – مذكراته التي نالت جائزة نيويورك للكتب غير الروائية، وجائزة أنيسفيلد-وولف عام 2000.
امتاز سعيد برؤيته الإنسانية الشاملة التي جمعت بين العقل النقدي والالتزام الأخلاقي. كان يرى أن المثقف الحقيقي هو من "يقول الحقيقة في وجه السلطة"، ولذلك ظل مناصرًا لقضايا الحرية والعدالة حتى آخر أيامه، رغم صراعه الطويل مع مرض اللوكيميا الذي استمر أكثر من عشر سنوات.
الرحيل
توفي إدوارد سعيد في نيويورك عام 2003، تاركًا وراءه إرثًا فكريًا وإنسانيًا ضخمًا ما زال يؤثر في أجيال من الباحثين والكتّاب حول العالم. وقد تحوّل اسمه إلى رمز للمثقف المقاوم، الذي لم يتخلَّ عن هويته ولا عن قضيته رغم كل ما حققه من شهرة ومكانة أكاديمية.