على الرغم من الحضور الكبير لكتابات السيرة الذاتية المصرية والعربية في مجالات ووجهات عديدة، خلال القرن العشرين وما انقضى من هذا القرن.. وعلى أهمية ما تطرحه هذه السير من تجارب وقضايا، أدبية وغير أدبية، وفإن الدراسات النقدية عنها لا تزال قليلة، أو على الأقل لا تزال غير متناسبة مع النتاج الوفير في هذا المجال.
من الدراسات المهمة عن السيرة الذاتية العربية ثلاثة كتب للدكتور شكري المبخوت، الكاتب التونسي صاحب رواية (الطلياني). هذه الكتب هي: (سيرة الغائب سيرة الآتي ـ السيرة الذاتية في كتاب "الأيام" لطه حسين) 1992، و(الزعيم وظلاله ـ السيرة الذاتية في تونس) 2016 ، و(أحفاد سارق النار ـ في السيرة الذاتية الفكرية) 2016.
الكتاب الأول (سيرة الغائب سيرة الآتي) يتوقف عند الجزء الأول من "الأيام" لطه حسين، ويحلله باعتباره "سيرة تعلّم" خلال أقسام ثلاثة. القسم الأول يقدم، في فصلين، مدخلا إلى جنس السيرة الذاتية؛ تعريفها وقضاياها وتمثيلاتها في الكتابات الغربية والعربية، ويتوقف عند "الأيام" من حيث صلتها بالجنس الأدبي. والقسم الثاني يحلل نص "الأيام" في خمسة فصول، الأول يتناول تكوين هذا النص، وكيفية بنائه، والثاني يتناول "لعبة الأزمنة" به، والثالث يركّز على "لعبة الضمائر" فيه، والرابع يحلل "سياسة الكلام" وطرائق التأثير التي ينطوي عليها، والخامس يتقصّى ما يسمّيه المؤلف "لعبة الوجه والقناع" في هذا النص. أما القسم الثالث من الكتاب فيقدم أنموذجا تحليليا مفصلا للفصل الأول من "الأيام".
ينهض الكتاب، فيما ينهض، على وعي نظري واضح بقضايا فنّ السيرة الذاتية، ويناقض هذه القضايا مناقشة مستفيضة دون أن يخضع خضوعا مدرسيا لها. وعلى مستوى التحليل، يقدم الكتاب مجموعة من الاستبصارات اللافتة التي تلتقط المرتكزات الأساسية التي استند إليها نص "الأيام"، والاستعارات الكبرى المهيمنة عليه، و"النويّات" الدلالية، الأصلية والفرعية، التي صرّفها طه حسين في فصول هذا النص. وصوت "المبخوت" النقدي واضح ومميز خلال الكتاب كله، واللغة التي استخدمها في التعبير عن هذا الصوت واضحة، بما يمنح الكتاب "طاقة توصيلية" تهتم بالقارئ العام، على الرغم من التزامه بقواعد البحث الأكاديمي.
الكتاب الثاني للدكتور المبخوت (الزعيم وظلاله ـ السيرة الذاتية في تونس) ينطلق من تصوّر، لا يخلو من طابع إيديولوجي، يرى أن سيرة الحبيب بورقيبة السياسية، بما احتلته من سطوة وهيمنة، قد قلصت "الفضاء السير ذاتي" في تونس كلها. ويتوقف الكتاب، في ثلاثة أبواب، عند الظواهر المحيطة بتجربة "الكتابة السير ذاتية" في تونس، وعند السيرة الذاتية السياسية التي قدمها بورقيبة، وما تثيره من قضايا، ثم عند السيرة الذاتية الأدبية التونسية، متمثّلة في نموذجين: (رجع الصدى) لمحمد العروسي المطوي، و(حنّة) لمحمد الباردي.
والكتاب، بهذا، يتوقف عند مجموعة من القضايا المهمة التي تتصل بتجربة السيرة الذاتية التونسية، والعلاقة بين ما هو "سياسي" وما هو "ثقافي" في هذه التجربة، والبحث عن "مغامرة" الفرد فيها، ومدى تبلور مفهوم "الهوية" خلال تمثيلاتها، كما يهتم الكتاب بتحليل التقنيات الفنية في النماذج التي اختارها، على مستوى استرجاعات الذاكرة وطرائق عملها في سرد هذه النماذج، وعلى مستوى العلاقة بين "التوثيقي" و"الخيالي" في هذا السرد، وصله هذا كله بالمفاهيم التي تحيط بجنس السيرة الذاتية بوجه عام.
هذا الكتاب أيضا يستند إلى دراية واضحة بأدوات التحليل، وقبل ذلك إلى معرفة نظرية واسعة بقضايا جنس السيرة الذاتية، كما ينهض الكتاب على استخدام لغة محكمة ودقيقة وواضحة. يلوح الكتاب منطلقا من تصوّر إيديولوجي محدد، يرى أن "الزعيم بورقيبة" قد هيمن بحضوره على فضاء السيرة الذاتية في تونس، بما حجب كل صوت "سير ذاتي" آخر، ومن هنا كانت قلة النتاج التونسي في فن السيرة الذاتية. وبجانب هذا، تعامل المؤلف مع سيرة بورقيبة باعتبارها "نصا" خالصا، على الرغم من أنها، في تكوّنها، انبنت على "تجميع" لسلسلة محاضرات ألقاها بورقيبة، شفاهة، بأحد المعاهد التونسية، ثم تمّ جمعها وتحريرها كتابا فيما بعد. وفي تحليله "نص" هذه السيرة، لم يهتم المؤلف اهتماما كافيا بأبعاد صاحبت هذا النص خلال تكوّنه، أي أشكال الأداء الحركي والصوتي التي اقترنت بمحاضرات بورقيبة، والتي تجعل سيرته لا تقف عند حدود النص اللغوي الخالص.
أما الكتاب الثالث (أحفاد سارق النار ـ في السيرة الذاتية الفكرية)، فينطلق فيه الدكتور شكري المبخوت من أسئلة مهمة تتعلق بخصائص هذا النوع الفرعي، "السيرة الذاتية الفكرية"، وعلاقته بالسيرة الذاتية بوجه عام، ومدى تبلور هذه الخصائص بحيث يمكنها أن تمنح هذا النوع الفرعي ملامح مميزة.
ينبني الكتاب على مدخل وخمسة فصول. يتوقف الفصل الأول عند بعض قضايا السيرة الذاتية الفكرية (المنظور الاستعادي بها، والعلاقة بين الحياة الحقيقية والحياة الفكرية في عالمها، والتردد بين التاريخ والتخييل فيها، هويتها السردية والأدبية ومقوماتها الخاصة). ويتناول الفصل الثاني ما يسمّيه المؤلف "الاستعارات التصورية" في سيرة (حصاد السنين) للدكتور زكي نجيب محمود (النسيج الاستعاري في نص هذه السيرة، والاستعارة التصورية الكبرى المهيمنة عليه وفروعها الأصغر). ويهتم الفصل الثالث بسيرة الدكتور عبدالوهاب المسيري (رحلتي الفكرية) ويحللها على مستويات عدة (عنوانها، وخصائص بنائها، وملامح مشروعها.. إلخ). ويستكشف الفصل الرابع سيرة الحبيب الجنحاني الذاتية والفكرية من منظور يهتم بعلاقات الأماكن فيها (الانتقالات المكانية، تحولات المكان وتحولات الفكر، تغيرات الأماكن وتغيرات ملامح الهوية). أما الفصل الخامس والأخير فيتناول سيرة حمد الكوّاري (على قدر أهل العزم) من جوانب عدة (جنس نص هذه السيرة، والقضايا التي تطرحها، وما يسميه المؤلف "تسريد الفخر" فيها، والقصد التأثيري الذي انطلقت منه وتأسست عليه).
والكتاب، خلال هذه الفصول الخمسة، يتصل بنائيا بخيط واضح، يتمثل في تجربة "المعرفة" التي تنتظم كل النصوص التي اختارها المؤلف للتحليل، وما يقترن بهذه التجربة من نزعة فكرية وسعي إلى الترقي عبر البحث عن "المعاني الكبرى". وتجربة المعرفة هذه، هي التي وهبت هذا الكتاب عنوانه "سارق النار"، إذ استدعت ما أحيط بكل من "برومثيوس" و"فاوست" من تصورات ربطت بينهما وبين "سرقة المعرفة".
الكتاب، مثل الكتابين السابقين للدكتور المبخوت، مع استناده إلى دراية المؤلف النظرية بقضايا فن السيرة الذاتية، يفيد من القدرة النقدية نفسها التي تقود إلى استكشافات مهمة في النصوص التي يتم تحليلها، كما يرتبط باللغة المتقنة الواضحة المسكونة برغبة الوصول إلى دوائر قراءة واسعة.
عن هذه الأعمال فاز الدكتور شكري المبخوت بجائزة الملك فيصل عام 1918، في موضوع "الدراسات التي تناولت السيرة الذاتية في الأدب العربي".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة