حازم حسين

حفرة غزة ورافعة الغضب.. عن انقسام إسرائيل المضاد وإلقاء كرة اللهب على نتنياهو

الثلاثاء، 03 سبتمبر 2024 02:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

إن أثمرت جولةُ التفاوض الجارية؛ فسيكونُ المُحرِّك لذلك تصاعد ضغوط الشارع على حكومة نتنياهو. والساعاتُ الأخيرةُ شهدت تطويرًا للاحتجاج حجمًا ونوعًا، وإكسابَه طابعًا مُؤسَّسيًّا تبدو فيه الدولة مُشتبكةً مع نفسها، بعدما دخل الهستدروت وبعضُ البلديَّات والمرافق العمومية على الخطّ. هكذا تبدو إسرائيلُ الرسميَّةُ والشعبيَّةُ فى جانب، ونتنياهو وبعضُ حكومته فى الآخر؛ لا سيَّما أنَّ وزير دفاعه الليكودى يوآف جالانت بين المُعترضين على أجندة الحرب الدائمة، والتشدُّد فى الشروط بما يسدُّ المنافذَ على إبرام صفقةٍ شِبه جاهزة. والنزاعُ اليومَ بين ثلاثة مسارات: رئيس الحكومة الساعى لإبقاء الميدان مُشتعلاً حتى الانتخابات الأمريكية، وشارعه الراغب فى استخلاص العدد القليل المُتبقِّى من الأسرى قبل أن يلحقوا بالراحلين، وحماس المشدودة بحبلٍ غليظ بين صليب النكبة وشجرة الطموحات الذاتيّة، حركيًّا وأديولوجيًّا، وقد لا تتغيَّر المُعادلة دون تحريك طرفين على الأقل من الثلاثة، ومع افتراض التصلُّب الدائم من جانب اليمين الحاكم فى تل أبيب؛ فالخيار الوحيد تقريبًا أن يتلاقى الغاضبون مع المنكوبين فى نقطةٍ وسيطة.


بالحسابات البراجماتية؛ يتعيَّنُ على الفصائل أن تسيرَ خطوةً للأمام. صحيحٌ أنَّ العدوَّ واحدٌ فى عقيدته الإلغائية المُتوحِّشة، والصراعَ معه فى كُتلته العريضة له طابعٌ وجودىٌّ، لا تختلفُ فيه السلطةُ عن حاضنتها الاجتماعية ومُناوئيها من بقيَّة التيارات؛ إنما قد يَحسُن صَرفُ النظر مُؤقَّتًا عن تلك الحقيقة، والدفع فى اتجاه الموجة الغاضبة بما يُعمِّقُ انكشافَ نتنياهو، ويُقوِّضُ خياراته فى المُراوغة والتضليل. والحال أنّها جولةٌ بين جولات، وليست مُباراةً فى الأدوار الإقصائيَّة؛ أى أنَّ فُرَص الربح بالضربة القاضية تكاد تنعدم على الطرفين معًا. وأقصى ما يُمكن استحصالُه أن تتوقَّفَ الحربُ، ويُفتَتَحَ مسارٌ سياسىٌّ يقودُ للتغيير فى تل أبيب، ويُمهِّدُ للإحياء فى غزَّة، والطريق لكليهما يمرُّ وجوبًا من قناة الهُدنة. وإذا كان منسوبُ الاعتراض على جانب العدوِّ أعلى من كلِّ المراحل السابقة؛ فإنَّ الظرفَ يتطلَّبُ من الحماسيِّين إنتاج خطابٍ مُتقدِّم عمَّا فات؛ ولِيَكُن باقتراحِ صفقةٍ من جانبهم، بعد استشارة الوساطة العربية والتنسيق معها؛ تتضمَّنُ الحدودَ الدُّنيا الكافية لتبريد الجبهة، وتحرمُ التوراتيِّين والقوميِّين المُتطرّفين من شياطين التفاصيل الصغيرة؛ كلَّما تيسَّر تجاوزُ إحداها لِمَا هو أكبرُ وأهمّ. ليكونَ الانتقالُ من الردِّ إلى الفعل عبر تلك الورقة؛ أداةً لتحسين كفاءة المعركة السياسية، والنفاذ من شُقوق الجبهة الداخلية للخصوم. وبإيجازٍ؛ فالواجبُ العمل على إذكاء الصراعات البينيَّة بكلِّ السُّبل، وأن يلعبَ «السنوار» على ورقة الانقسام، مثلما كان ضحيَّةً لها لسنواتٍ خَلَت، بينما يتوهَّمُ أنه يُصادرُ المجالَ العام من المنافسين.


عاملُ التغيُّر الأخير، ما أُذِيْعَ عن استعادة جُثَث الأسرى السِّتّة من أحد الأنفاق. أراد إعلامُ «الهاسبرا» الدعائيَّة أن يُصوِّر الأمرَ على صِفَة الفاعليّة العسكرية، وأن يُنتجَ من خلالِه فصلاً جديدًا فى سرديَّة المظلوميَّة والوَصْم.. وقد جرى تسريبُ إشاراتٍ عن تصفيتهم على أيدى الخاطفين، وعبر رصاصةٍ مُباشرة فى الرأس من نطاقٍ قريب. وبقدر ما أرادوا تبريرَ التشدُّد وتسويقَ فكرة «التفاوض تحت النار»؛ ارتدَّت الحكايةُ عليهم بأثرٍ عكسىٍّ ما كانوا يتوقَّعونه. فالمُبالغة فى حياكة ظاهرٍ تراجيدىٍّ للمشهد؛ عزَّزت حالةَ الهلع لدى الصهاينة بدلاً من إذكاء نار التوحُّش فى صدورهم. استعادت الذاكرةُ حكايةَ المُقاوِم القسَّامىِّ الذى أطلقَ النارَ على أسراه بعدما تلقَّى نبأ استشهاد طفليه، ثمَّ سوابق التهديدات الحماسيَّة بالردِّ على القتل بالقتل، وجاءت تخريجةُ الإعلام اليمينىِّ لتصُبَّ مزيدًا من الزيت على الجمر المُتَّقِد. ولو صحَّت الروايةُ المُذَاعة؛ فإنَّ القسَّاميين أداروا عمليَّتَهم تلك المرَّة بذكاءٍ يتجاوزُ العاطفةَ والاستعراض السابقين، فحقَّقوا أثرَ التخويف وتمرير السيناريوهات السوداء، دون اعترافٍ ثابتٍ بتجاوُزِ القانون الإنسانىِّ، أو تقديم حجَّة يتشوَّقُ لها نتنياهو وعصابتُه. لكنَّ الطريقةَ نفسَها غيرُ صالحةٍ للتكرار كثيرًا؛ أوَّلاً لأنها تُفرِّغُ خزَّان الرهائن دون تحصيل مكاسب مُباشرة، وثانيًا لأنَّ الإفراط قد يُرقِّى دعايات التوحُّش والتشويه، فضلاً عن مخاطر أن تنعكس عاصفةُ الغضب الشعبىِّ الحاليّةُ مُجدَّدًا، فتندفع إعصارًا من تل أبيب إلى القطاع.


قال مُتحدِّثُ القسَّام مُؤخَّرًا فى شأن التآكُل المُتتابع للحصَّالة البشرية؛ إنَّ ما أُرِيد بكلِّ الأسرى سيتحقَّقُ ولو بخمسةٍ منهم فقط. وأخشى أنه ينطلقُ فى هذا من وعىٍ قديم، لم يتجاوز صفقةَ شاليط قبل ثلاث عشرة سنة، كما لا يستوعبُ تطوُّرات السياقين المحلى والإقليمى، وما آل إليه الحُكْمُ فى تلّ أبيب من يمينيَّةٍ تتخطَّى كلَّ الأسقُف المُعتادة. ما قِيْلَ صائبٌ على المستوى النظرى؛ إنما عمليًّا ثَبَتَ أنَّ نتنياهو وائتلافَه لا يُقيمون وزنًا للكثير؛ لنفترضَ أنهم قد يخضعون ويُقدِّمون التنازُلات المطلوبة لقاءَ القليل المُتاح. لقد فاتهم فى «طوفان الأقصى» أن يحسبوا الارتدادات وفقَ المُتواليات والتضاعيف العددية، لا بالحسابات النسبية الرياضية البسيطة. وقد تبدَّى سريعًا أنَّ ما أُحرِزَ بأسيرٍ واحد قبل عقدين، يستحيلُ تأمينُه اليومَ بمائتين وخمسين؛ وعلى قَدر الصدمة التى أحدثها الهجومُ تفجَّر الردُّ، وأُرسِيَت المُعادلةُ الحِسابيَّة الجديدةُ من جانب العجوز المأزوم. نتنياهو فى أوائل الألفيَّة غير ما هو عليه اليوم، سيرتُه خلفه ومُستقبله محكومٌ بالدفاع عن ماضيه أوَّلاً. واستيعابُ ذلك يقودُ لخُلاصةٍ مُزعجةٍ للغاية؛ أخطر ما فيها أنه يُرحِّبُ بالخلاص من طَوق الرهائن الملفوف على رقبته، أكان برصاص حماس أم بالنيران الصديقة؛ وعليه فربما يكونُ أكثرَ الفَرِحين بالجُثَث المُستعَادة، ويتمنَّى لو ترصَّصَت توابيتُ الباقين على مداخل الأنفاق عاجلاً غير آجل. وهذا ممَّا يفرضُ على المُقاومة أن تقتصدَ فى إحراق أُصولها الثمينة، وأن تتمشَّى فى الزمن بخيالٍ يقظ؛ لتُقدِّمَ اليومَ بفِطنةٍ وذكاءٍ وأرباحٍ معقولة، ما قد تُضطرّ إليه غدًا بإجبارٍ وانكسار وخسائر أكثر فداحة. والتعقُّل يبدأُ من المُكاشفة الذاتيَّة، والاعتراف بأنها لم تكُن فى أكتوبر الماضى ولا ما بعده من أسابيع، تتخيَّلُ النقطةَ التى تقفُ عندَها الآنَ، مع اقتراب الحرب من إقفال عامها الأوَّل.


بدأ الخطابُ من محطَّة «الكُلّ مُقابل الكلّ»، وتعالت الدعاياتُ فى نشوة «الطوفان» لتتحدَّث عن افتتاح معركة التحرير. وأخذ السقفُ ينزلق على الرؤوس، بأثر الوحشيَّة والإبادة المُنفلتة؛ حتى آلَ حاليًا إلى مُجرَّد الطموح فى إيقاف الحرب، أمَّا أعلى الطموحات فأن تعودَ الأوضاعُ لِمَا كانت عليه قبل السابع من أكتوبر، كما لو أنه لا طوفان ولا مَن يحزنون؛ اللهم إلَّا آلاف القتلى والمبتورين واليتامى. ربما بالغت «حماس» فى تقدير قُدراتها، وقراءة واقع العملية وما يترشَّحُ عنها من احتمالات، وربما خُدِعَت من حُلفائها الأيديولوجيِّين الذين كانت تُراهن على أن يُلاقوها تحت ظلال «وحدة الساحات»، ويُفجِّروا حربًا إقليميَّةً لا تكون المُتضرِّرَ الأكبرَ فيها، وتجنى منها أضعافَ ما كان فى يدِها أصلاً. بعيدًا من التفاسير والتأويلات التى لا تتوافرُ دلائلُ داعمةٌ لها، ولعلَّها تذهبُ لِطَىِّ النسيان كعادة الأخطاء التراجيديَّة الكُبرى، وعدم إيمان التيَّارات الأُصوليَّة بفضيلة المُراجعة والإقرار بالخطأ؛ لكنَّ المُهمَّ أن تنطلقَ فى إدارتها للراهن من مُرتكَزٍ أقلّ خِفَّة، وأن تتجاوز الأغاليطَ والتصوُّرات المُشوَّهة عن نفسها والآخر، لتُحسِنَ اغتنامَ الفُرَص المُمكنة، واجتنابَ الفِخاخ المُهدِّدة بمزيدٍ من السقوط والنكبات.


أُلقِيَت فلسطينُ فى حُفرةٍ عميقة؛ والأصلُ ألَّا تُواصِلَ الحَفْرَ طالما تُريد الخروج. لم تعُد الغايةُ اليومَ أن نردمَ الهُوّة العميقة؛ بل أن تسترجعَ القضيَّةُ موقعَها على سطح الأرض، قبل أن تُقبَرَ بمزيدٍ من البارود والطَّلَل والأشلاء. والغاضبون فى تلِّ أبيب لا يعنيهم الغزِّيون قطعًا، ولا خريطة الوطن الضائع وآمال ناسه، بقدرِ ما يرفضون مُواصلةَ الحفائر التى تُغيِّبُ أسراهم، ومعهم كرامة الدولة وصِدقيَّتها فى العَقد الاجتماعىِّ مع مواطنيها، وميثاقيَّة الوطن اليهودىِّ الآمن عليهم أحياءً وأمواتًا. وهُنا قد يكونُ التشبَّثُ بالرافعة المُلوَّنة بنجمة داود الزرقاء وسيلةً عَمَلانيَّةً للنجاة المُؤقَّتة؛ وليست بالضرورة تحالُفًا مشبوهًا مع الأعداء. والمعنى؛ أنَّ الأسرى مطلوبون من إسرائيل فى كلِّ الحالات: رئيسُ الحكومة وعصابته يُريدونهم بالنار والدم أو فى توابيت مُقفَلة، والشارعُ يُدافع عن نفسِه فى صورتهم، ويُريدُهم سالمين ليطمئِنَّ على مُستقبله لو كان مكانهم، وفيما بين الرأيين المُتصارَعين يصحُّ المَيلُ للغاضبِ بدلاً من القاتل، وإعانة مُناوئى الليكود وزعيمه بكلِّ الصُّوَر والأدوات؛ إن لم يكُن بمَنطقٍ مَرحَلىٍّ عنوانه «عدوُّ عدوىِّ صديقى»، لو جاز التعبير؛ فعلى الأقلّ بنَفعِيَّةٍ تُخرِجُ الأبرياءَ مع المأسورين من حُفرتهم الجامعة بحَبلٍ واحد.
صورةُ النصرِ المأمولةُ من الطرفين لم تعُد فى الميدان بمعناه الصراعىِّ المُباشر. لن تُهزَمَ إسرائيلُ فى حرب عصاباتٍ مهما تعاظَمَت خسائرُها، و«حماس» باقيةٌ طالما بَقِى مُقاتلٌ واحدٌ منها أو نَفَقٌ تدبُّ فيه الحياة. والمُنازعةُ اليومَ صارت بين شخصين بالتحديد: نتنياهو والسنوار، الأوَّلُ يطلبُ رقبةَ الثانى ويُمكنُ أن يكتفى بها عنوانًا للعودة الظافرة من الجبهة، والثانى يغيظُه بالبقاء حيًّا؛ على أمل أن يشهدَ على إزاحتَه من منصبه والزجَّ به وراء القضبان. والواقع أنَّ إيقافَ الحرب ينتصرُ لرجلِ الظِّلِّ على ذئب الليكود، لهذا يستميتُ الأخيرُ فى إبعاد شبح التسوية وإبقاء الأجواءَ مُشتعلةً، وهذا الاشتعالُ يُهدِّدُ الثعلب المُراوغَ بالسقوط؛ مهما كانت احتياطاتُه الأمنيَّةُ وقدراتُه فى الاختفاء والتنكُّر. وبحِسبَةٍ بسيطة؛ فالهُدنةُ على أىِّ شرطٍ ستكونُ انتصارًا للقطاع على الاحتلال، بالحياة أوَّلاً، وبإسقاط أجندة التصفية والتهجير، وتسريع مَوسم المُحاسبة فى إسرائيل. والمعيار هنا ليس فى مقدار تحجُّر الجُمجمة إلى أن تنكسرَ؛ بل فى الحيلة ولُيونة الخيارات ليبقى الرأسُ سليمًا، وتعودَ المُنازلة لموقعها الطبيعىِّ؛ كمعركةٍ طويلة المدى، تتقدَّمُ الحظوظُ فيها بتراكُم النقاط.


من هُنا تتأتَّى الحاجةُ لبدء ورشةٍ وطنيّة جامعة، لا على الهُدنة العاجلة وشُروطِها فحسب؛ بل ما بعدَها من إدارةٍ سياسيَّةٍ وتنفيذية، وترتيبٍ لفترة التشافى والنقاهة، بعد مُغامرةٍ وَضَعَتْ القضيَّةَ فى غُرفة الرعاية المُركَّزة. وعلى المُفاوضين الحماسيِّين أن ينظروا فى أوراقهم مُجدَّدًا، ويفرزوا الثوابتَ المبدئيَّةَ من العوارض التى لا تُقدِّمُ أو تُؤخِّر، ويُمكن تجاوزُها لِمَا بعدَها؛ هربًا من الواقع الثقيل أو أملاً فى مُقبلٍ تتبدَّلُ معه توازناتُ الدولة العِبريّة، فتنعكس على الداخل الفلسطينى ومشهديَّة الصراع فى الإقليم. مسألةُ محور فيلادلفيا ثابتٌ مصرىٌّ لن تساوم القاهرةُ عليه، ويُمكن أن تتجنَّبَ الحركةُ عبءَ الحديث عنه؛ لتبدو ورقتُها أقلَّ ازدحامًا بالتفاصيل المُربكة. أمَّا محور نتساريم وتفتيشُ العائدين من الجنوب للشمال؛ فالعقبةُ فيهما تخصُّ الوجودَ العسكرىَّ، وقد يُستعاضُ عنه بترتيباتٍ أمنيَّةٍ مُتَّفَق عليها دون بقاء الاحتلال، لا سيَّما أنَّ سياقَ الحديث عن هُدنةٍ لا تتجدَّدُ الحربُ بعدَها، وليست للحركة حاجةٌ فى نقل السلاح؛ إذا كان حاضرًا أصلاً، أمَّا المُقاتلون فإنهم كعامَّة الغزِّيين، ولن يعبروا بأشرِطَةِ القسَّام على جباههم؛ ليَخْشَوا الاستبعادَ أو التوقيف. وفيما يتَّصل بصفقة التبادُل؛ فالواقع أنَّ الصهاينة اعتقلوا بعد «الطوفان» أكثرَ ممَّن كانوا فى السجون قبله، وأضعافَ مَن تُطالِبُ بهم حماس فى الاتفاق الجديد، ويُمكن أن تستجيب لرغبات الحركة ثمَّ تُعيد اعتقالَهم أو تغتالهم فى بيوتهم، ومن ثمَّ فالاختلافُ فى ذلك شَكلانىٌّ ولا أثرَ له سوى الدعاية وتناطُح الإرادات. وبهذا الفهم؛ يُمكن أن يُصفّى «السنوار» أهدافَه من الشوائب، ويستبقى الضرورىَّ الذى لا تنازُلَ عنه، بينما يتجاوزُ الهامشىَّ لغايةٍ أسمى، وليس أهمَّ اليومَ من إيقاف المَقتَلة، ثمَّ وَضع نتنياهو أمام تناقُضاتِ بيئته الداخلية.


سرَّبت الإدارةُ الأمريكيةُ رسائلَ تطويعٍ مُبكّرة قبل الحلقة الجديدة من الجولة. وأوردت تقاريرُ صحفيّة أنها تستعدُّ لإنجاز ورقةٍ مُحدَّثةٍ ونهائية، تطرحُها على الفريقين تحت عنوان «اقبله كاملاً أو ارفضه»، فيما يُشبه التمهيدَ لصفقةٍ على وجه الاستعجال، أو إعلان فشل الوساطة، والانصراف من غُرفة التفاوض مع احتدام موسم الانتخابات. وبعيدًا من صيغة التهديد الضمنيّة؛ فليس مُنتظَرًا أن ينسحبَ بايدن وفريقُه من حلبة الصراع، اتّصالاً بأنه سيظلُّ يُفتِّشُ عن ختامٍ لامعٍ لمسيرته حتى آخر يومٍ فى البيت الأبيض، كما لن يُغامرَ بإرخاء الحَبل مع مخاوف اندلاع مُواجهةٍ إقليمية شاملة، تُهدِّد الحليفَ والأصول الأمريكية بالمنطقة، وتنعكسُ على فُرص كامالا هاريس أمام ترامب. ومقصودُ الرسالة أن تستحثَّ الطرفين على إبداء المرونة، وتُوظِّف حواضنَهما الشعبية فى الضغط لتليين المواقف. والفرصةُ سانحةٌ للطرف الفلسطينى فى زحام الرؤى وتداخُل الملفّات، أن تصل لتهدئةٍ؛ ولو مائعة، ويكون موسمُ الانتخابات فاصلاً طويلاً يحولُ دون تجدُّد الحرب على صورتها القائمة.
نتنياهو يُفشِلُ كلَّ التوافقات، والقاهرة علّقَت الجرسَ فى رقبته غير مرّة، على ما تقولُ بشكلٍ دائم، وأكَّده مصدرٌ رفيعُ المستوى أمس. وإذا كانت المحكمةُ أحبطت مسارَ الإضراب فى إسرائيل، بدعوى أنه سياسىٌّ لا عُمَّالى؛ فإنها لم تُطفئ جمرةَ الغضب من الحكومة وسياساتها. والجنرالاتُ أيضًا ليسوا على وفاقٍ مع الأجندة التوراتية، وقد شهد اجتماعُ الكابينت تلاسُنًا غير مسبوقٍ بين بيبى وجالانت.. وليس على الفصائل أن تتنازل عن الثابت الوطنى العام؛ إنما يجبُ ألّا تحبسَ نفسَها فى الأنفاق بعيدًا من المجال الحيوى للصراع، ذهنيًّا ونفسيًّا، وتبدُّلات الأحوال فى إسرائيل والمنطقة وما بين الولايات المتحدة وإيران. لقد حُيِّدَت الجبهةُ الشمالية جزئيًّا، ولا يبدو أنَّ محورَ المُمانعة بصدد دفع الأوضاع لأبعد ممَّا هى عليه، وكلما مرَّت الساعاتُ يربحُ الائتلافُ الحاكمُ بتضييع الوقت، وبالاقتراب من حلمه الكبير بعودة ترامب. على الفلسطينيين أن يُخاطبوا المجتمعَ الإسرائيلىَّ خطابًا مُباشرًا، وأن يستحِثّوا فيه طاقةَ الغضب، ويُقدِّموا ما يُحفّزه على تصعيد مواقفه الرافضة للحكومة وبرنامجها.

وبعدما وحَّدَ الاحتلالُ بين غزّة والضفّة بالنار والدم؛ فإنَّ على السلطة وحماس توحيد رُؤاهما فى إدارة الحربىِّ والسياسى، وابتكار لُغةٍ وسيطة بين نشوة الطوفان وانكسارات الواقع الثقيل، وبين مُقارعة نتنياهو ومُغازلة عواطف جمهوره المأزوم. والحال أنَّ لعبةَ توزيع الأدوار تغيبُ عن جبهة القضية، وكما توحَّدت القيادةُ المدنية والعسكرية فى شخص السنوار، فالمُقاربة محصورةٌ فى خطابٍ واحد، ولا بديل عن ابتكار واجهةٍ دعائيّةٍ تكونُ مُتّصلةً بالنزاع، ومعزولةً عن الميدان والتفاوض، وقادرةً على اللعب فى سيكولوجية المجتمع العِبرىِّ، دون أن تصيرَ القضيّةُ مُلزَمةً حَصرًا بلونٍ واحد. حتى اللحظة لا يسمعُ الغاضبون إلّا صوت نتنياهو وحكومته، وقد انتفضوا بأثر الحقائق المُجرّدة عن حال أسراهم، فماذا لو أُضِيفَت إليها رَشّةٌ من توابل العاطفة ومُحسِّنات النكهة؟! إنَّ حماس الصاخبة ينبغى ألا تخرُجَ عن الغُرف المُغلقة، على أن يُستعاض عنها فى المجال العام بصوتٍ أكثر هدوءًا ورماديّة، يُدير صراعَه مع اليمين المُضادّ بمادّته، ولا يتركُ له نطاقَ الدعاية وتمرير الرسائل المخاتلة فارغًا. الوحدةُ الغائبةُ عن الفصائل ليست مهمّةً من زاوية وَصل المنقطع فى الجغرافيا فقط؛ بل لأنها ستُعيدُ لفلسطين النبرةَ الضائعةَ من صوتها الكامل، الناضج، القادر على التبديل بين المواقف والخيارات، والذى يُزعِجُ العدوَّ القاتل، بقدر ما يُربِكُ العدوَّ الغاضب. لا يقعُ الانتصارُ دائمًا بالقوّة الذاتية؛ إنما يكون أحيانا من ضَعف الخصوم، والرهان على شارعٍ هائج فى تل أبيب، ربما يُفيدُ اليومَ أكثر من نفقٍ منيع. لقد حقَّق نتنياهو أثمنَ مكاسبه عندما رعى الانقسام، واستثمر فى حماس على حساب مُنظّمة التحرير؛ ولعلّه آن الأوانُ لرَدِّ أُحجيته عليه، وقذفه بكُرة اللهب التى لطالما كان مُغرمًا بتطويحها فى أرجاء فلسطين.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة