عادل السنهورى

سينما البرشا

الإثنين، 03 يونيو 2024 02:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

هل هي مفاجأة أن يأتي فيلم مصري بسيط من هناك.. بعيدا جغرافيا عن القاهرة بنجومها الزاهرة اللامعة المتخمة بملايين الجنيهات، والمسيطرة على سماوات المشهد السينمائي والمسرحي والدرامي والمستحوذة على الشهرة والمكانة الاجتماعية وسط الملايين...ويفوز هذا الفيلم بأكبر جائزة سينمائية في العالم
هل هي مفاجأة أن يحصل هذا الفيلم على الجائزة الكبرى بعيدا عن مؤسسات وهيئات الفن المسئولة عن انتاج نوعية من الأفلام السينمائية ترفع اسم مصر في المحافل الدولية المتخصصة في كافة أنحاء العالم وخاصة في كان في فرنسا أو في الأوسكار في هوليوود أو في روسيا وغيرها من المهرجانات الدولية والمسابقات العالمية..؟


هل هي مفاجأة أن يفوز فيلم بسيط وبأقل تكلفة وبأبسط الإمكانيات وداخل احدى قرى الصعيد وريفه الطيب بإحدى جوائز مهرجان " كان" بعد أكثر من 70 عاما من مشاركات مصر الرسمية في المهرجان دون الحصول على جائزة- أكثر ما حصل عليه فيلم مصري هو مجرد الإشادة أو العرض خارج الجائزة الرسمية-
فوز فيلم " رفعت عيني للسما" بجائزة كان هو مفاجأة مذهلة وصدمة وصفعة لمن حاولوا سرقة المشهد الفني المصري العريق بقيمه وتقاليده وعاداته الراسخة منذ أكثر من مائة عام في المسرح والسينما  وتشويه المشهد وتزويره و تلويثه وكأنه هو السائد والقائد للمنظومة الاجتماعية والأخلاقية والثقافية الجديدة للمجتمع المصري ونفوذه الثقافي والاجتماعي والديني في محيطه العربي والإقليمي والدولي بأشكال جديدة ورموز مختلفة وأبطال مغايرة عما كانت عليه في السابق كادت أو أوشكت في تحقيق النجاح بمعاونة آخرين لمحو الذاكرة الجمعية الوطنية للمصريين بأشياء لا علاقة لها بالفن المصري الأصيل أو بالهوية المصرية التي عبر عنها هذا الفن بكافة تفاصيله . ولا داعي للانسياق الى أسماء وصفات هي صاحبة النفوذ والجماهيرية والحظوة الآن في المجتمع المصري والعربي.
المفاجأة أن الفيلم الذي جاء كالمولود خارج رحم المؤسسات الرسمية الذي ألقى بحجر ضخم في المياه الآسنة وركام الإحباط ومحاولات التدمير والتشويه للثقافة المصرية وفي أحد أهم أعمدتها وذاكرتها وهو فن السينما ليثبت أن مصر لا تنضب أو تجف أنهار ابداعها وينابيع الروح فيها وأن الفن والابداع ساكن في أعماق أعماقها. في شوارعها وأزقتها وحواريها وقراها ومبانيها وجدرانها وفي كل مولود فيها. فالفنون والعلوم والآداب نشأت ونمت وترعرعت هنا في الإسكندرية على شاطئ البحر المتوسط وعلى ضفاف النيل من الصعيد الى القاهرة وحتى الدلتا ورسوم ونقوش المعابد خير شاهد على حضارة الفن والابداع والمعرفة التي أمدت بشعاعها دول وشعوب العالم القديم والجديد 


يمكن أيضا أن يكون فوز فيلم  بنات البرشا " رفعت عيني للسما" مفاجأة وصدمة للذين ظنوا أنه تم تجريف الروح المصرية من سر ومكنون تألقها وابداعها وحاولوا صياغة جديدة للفن المصري وتشويه تراث ناضل من أجله مئات وآلاف من رموز مصرية أصيلة في كافة المجالات عبر مئات السنين وصولا الى بنات البرشا ...القرية الصعيدية البسيطة التي أنجبت أمثال هؤلاء البنات مثلما أنجبت باقي قرى المنيا أمثال طه حسين و والشيخ مصطفى وعلى عبد الرازق وهدى شعراوي ولويس عوض والدكتور إسماعيل صبري عبد الله وعمار الشريعي وزوزو ماضي وسناء جميل وميرفت أمين وعلاء ولي الدين وهاني رمزي وصولا الى بنات البرشا الجميلات فخر مصر وروحها المتجددة


من البرشا، إحدى القرى التابعة لمركز ملوى بمحافظة المنيا نبت حلم فتيات فرقة بانوراما البرشا المكوة من مجموعة من الفتيات المصريات ولد بداخلهم حب الفن والغناء والمسرح وتحدوا كل الظروف الصعبة فنيا واجتماعيا وكسر التابوهات الجديدة للمدينة المهيمنة والمستحوذة على كل شيء وأردن التعبير عن ذواتهن وبأدوات وامكانيات فقيرة للغاية من واقع المجتمع الصغير للقرية الصعيدية. فجاء الفيلم التسجيلي الأمل والصرخة الفنية الجديدة " رفعت عيني للسينما" ليحصد جائزة العين الذهبية للفيلم التسجيلي في كان ويرفع اسم مصر عاليا من خلال المضمون الاجتماعي الغارق في المحلية – مثل أدب نجيب محفوظ- لقضايا اجتماعية مهمة عبرت فيها الفتيات بصراحة عنها ورفعن لافتاتهن في مواجهه عادات وتقاليد اجتماعية بليدة "   "انا جسمي مش خطيه.. ولا لبسي ده قضية…والمتحرش جبان ". وتجولن بها في تظاهرة للتعبير عن مشاعرهن مطالبين الا يساقوا للزواج صغار ولابد ان البنت تختار شريك حياتها ومكافحة الزواج المبكر ومناهضة الخلافات الأسرية .


الفيلم بسيط بأدواته لكنه عميق في مضمونه وقضيته من خلال ما يسمى بـ" مسرح الجرن أو الشارع" لفتيات يرصدن ما يدور داخلهن من أحلام خارج الزمن الاجتماعي لهن في مواجهه كوابيس الواقع. فمجموعة البنات في الفيلم التسجيلي قررن تأسيس فرقة مسرحية لعرض مسرحياتهن المستوحاة من الفلكلور الشعبي الصعيدي، وعرضها في شوارع قريتهن "البرشا" في لتليط الضوء  علي قضايا الزواج المبكر والعنف الأسري وتعليم البنات والقضايا المسكوت عنها في الشارع المصري تجاه الفتيات. الفيلم رغم قسوة مضمونه الا أنه ممزوج بحكايات وأغاني التراث واحكام أدبي وبلغة سينمائية محترفة وراقية
الفيلم من إخراج ندى رياض وأيمن الأمير، وبطولة فريق مسرح بانوراما برشا، ماجدة مسعود وهايدي سامح ومونيكا يوسف ومارينا سمير ومريم نصار وليديا هارون ويوستينا سمير مؤسسة الفريق وإنتاج شركة فلوكة فيلمز. الفيلم استغرق حوالي 4 سنوات لتوثيق رحلة البنات في القرية واستحق الجائزة الدولية
تحية تقدير لفرقة بانوراما البرشا التي ألقت بتلك الحجر الضخم ودقت بجرس تنبيه كبير لايقاظ واستنهاض الهمة الفنية المصرية من جديد واستعادة زمام الابداع مرة آخري من خلال مئات وآلاف المواهب المنتشرة في شوارع مصر وقراها وتحتاج فقط الى إعادة تنظيم من بعض المخلصين والمؤمنين بقدرات مصر الفنية مثل ما أبدع زكريا الحجاوي عاشق تراث مصر في الخمسينات والستينات وحتى بداية السبعينات.


شوارع وقرى مصر كانت تمتلك مسرحها وفنها الخاص في الخمسينات والستينات والسبعينات لترسيخ ثقافة التعبير وافراز مئات المواهب والكوادر الفنية ...فماذا حدث ..؟ كان لدينا مسرح الشارع والجرن والمسرح المدرسي وفرق قصور الثقافة المسرحية في حوالي 525 قصر ثقافة والمسرح الجامعي ومسرح السكة الحديد والمسرح العسكري ومسرح التليفزيون وغيرها.


المسألة بسيطة يا سادة ..نحتاج الى مشروع لإعادة هذه المسارح مرة آخرى وخاصة مسارح الشارع والجرن والمسرح المدرسي والمسرح الجامعي وصدقوني سنفوز بجوائز عالمية كثيرة وبفن مصري صميم وخالص بسواعد أبناءه من البسطاء الموهوبين في ريف مصر وصعيدها في البرشا وفي أكثر من 5 آلاف قرية مصرية آخرى.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة