خالد دومة يكتب: لمن يشتكي النهر؟

الأحد، 02 يونيو 2024 09:33 م
خالد دومة يكتب: لمن يشتكي النهر؟ خالد دومة

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

عند هذا النهر كان يلتقيان، سمع كل ما دار بينهما من أحاديث تنوعت وتشكلت، أحاديث الحب والهوى، ما كان يعتريهم من حوادث الحياة، ما أسعدهما، وما أتعسهما، لحظات مختلطة وابتسامات ودموع، وكان النهر يشاركهما، كل شيء، يرقص إذا خالطت السعادة قلبيهما، ويهدر بمياة إن فزعا، كان يصغي وينتبه لكل كلمة، وكل نبضة تصدر عن قلبيهما، تحمل معهما كل معاناة، تركت أثرا في حياتهما.

 

كانا يلتقيان على شاطئه المنعزل في جانب منه، وعلى رماله خطت أيديهما عبارات لازالت محفورة. كان في عيد الميلاد يحتفل ويطرب وينتعش بسماع موسيقى الكلمات، بنظرات العيون التي يملأها الحنين، غاب عن النهر أيام انتابه أرق واضطراب، لكنه لم ييأس من لقائهما ثانية، كان يسأل العشاق الجدد، ولكن لم يخبره أحد عن مآلهما، ولماذا غابا؟ كل هذه الغيبة؟ وقد طالت إلى شهور، يتذكر وقفته عند الصخرة، صوته العالي في فضاء النهر، كان يُسمع الخافقين، كان الحب دثار، معطف تستدفيء به، قبلاته للنهر الذي كان يردها على وجنتي حبيبته المبتسمة في خجل، وهي تتلقاها بشفتيها الكرزيتين، كانا يستنشقان رائحة النهر، ليملأ صدريهما من العطر والحب ما استطاع.

 

كان النهر يغازلهما ويحسدهما ويلعب كالأطفال حول ظلهما، يأخذ بكفيه من ماء النهر ليسقياها، وتجري مياهه في وريدها تنعش الأوردة والشرايين، فإذا ما افترشا وجلسا في مواجهة النهر، يملي عليها قصائده، كان النهر جمهورا غقيرا محبا، يصفق لكل بيت من فمه، من كلمات عشقه، يقدما له التحية وقبلة في الهواء، يتلقفها ويحتفظ بها في أعماقه السحيقة، تدفأ أغواره من صقيع الزمن الممتد، في عصر يوم جاء يحتفلا بعيد ميلادها، كانت الشمس مشرقة والسماء صافية، والهواء نسيم منعش، أوقدا شمعتين، نظرا السماء ونور الشمس الذي يفيض على كل شيء، كان يقول لها إن ذلك النور إنما هو انعكاس لنور وجنتيك المرمريتين، فالسماء لا تعرف إلا نور وجهك، تبتسم وقطرات الدم تكاد تنبثق من محياها خجلا وحياء، أطفأ الشمعتين بنفخة صغيرة، شاركهما النهر والنسيم، والهواء الرقيق حين تهادى، وحرك خصلت شعرها الذهبي اللامع، أرسلت سحابة كانت تمر تهانيها، نجمة عالية ومضت، تهنئة شعاع شمس المتغارب، موجات تحية من النهر، سمعا صوته فأبتهجا، تلقيا التبريكات والتحيات من الطبيعة.

 

كان كعرس، كان أصيلا رائعا، ترك على النهر من عبقهما ما لا ينتهي إلى الأبد، رحلت قبله كما كانت تفعل دائما، يقف يناجي الشاطيء ساعة، يأخذ عليه العهد، بألا ينسى، بأن يدون في صفحاته ما يرى، ويشهد عليهما ولهما، ويهبط الظلام على كل شيء، تختفي معالم النهر والمياه، وصوته يهدأ، يشير إليه، ويودعه وينطلق، كان الأصيل الأخير، والخطوات الأخيرة، وأخر لحن سمعه النهر، وأخر شعاع ضوء، لم يكن هناك خلاف شجار، كان حديث الحب أخر ما طرق أذني، فأين أختفيا، أين ذهبا، وتركاني مشغول شغوف مؤرق، ولما سأل النهر عنهما لم يجيبه أحد، كانت أمواج النهر عويل، لم ينتبه إليه أحد، ومنذ ذلك اليوم والنهر في حداد، ولا عزاء، ولا شفاء مما أصابه، وكلما رأى عاشقين أنتفض، وحاول أن ينسى، يندمج يشارك ولكنه يوهم نفسه، وتلقي به في بحر ذكريات لا ينتهي، تُلقي به في بحر أحزان وأوجاع، ويظل يبكي ويصرخ كالأطفال الصغار، ثم يأمل نفسه من جديد، سوف يعودا يوما، وغدِ لا يجيء، والأيام تمر بلا جدوى والأحزان تتراكم، وتلهبه سياط الكلمات، كلما تردد صداها في أعماقه وأمواجه، لمن يشتكي النهر؟ هل تموت الأنهار من الحسرة، تتوقف عن العطاء، عن الحب.


 









الموضوعات المتعلقة

خالد دومة يكتب: المعنى الشريف

الخميس، 29 فبراير 2024 04:07 م

خالد دومة يكتب: تراب الأخرين

الجمعة، 23 فبراير 2024 12:27 ص

مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة