في زحمة ذكريات الطفولة، تتراءى لي صورة باهتة لجهاز راديو خشبي عتيق، يحتل مكانة مرموقة في صدرِ منزل جدتي، لم يكن هذا الجهاز مجرد قطعة أثاث صامتة، بل كان نافذة سحرية تطل على عالم روحاني ساحر، عالم تشكل في وجداني منذ نعومة أظفاري بفضل إذاعة القرآن الكريم.
كانت أصوات المقرئين المصريين العذبة، وهي تتدفق من هذا الراديو، بمثابة أنغام سماوية تطرب الروح وتنعش القلب. لم أكن أفهم معاني الكلمات في ذلك الوقت تماما، لكنني كنت أشعر بقوة تأثيرها في نفسي، وكأنها تخاطب شيئًا عميقًا في داخلي، شيء أجهل كنهه آنذاك.
أتذكر صوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، وهو يرتل آيات الله بصوته العذب الشجي، فكان يدخلني في حالة من الخشوع والسكينة لا مثيل لها، كان صوته كنسيم عليل يمر على روحي، فيزيل عنها أعباء الحياة وهمومها.
كما أتذكر صوت الشيخ مصطفى إسماعيل، وهو يحلق بنا في سماءِ الإبداع والتجويد، فكان يبهرنا بقدرته الفائقة على التحكم في طبقات صوته، وكأنه يرسم بالكلمات لوحات فنية بديعة تجسد معاني القرآن الكريم.
لم تكن إذاعة القرآن الكريم مجرد وسيلة للإستماع إلى التلاوة فحسب، بل كانت مدرسة روحية تعلمنا مبادئ الدين الحنيف وقيمه السمحة. كانت ترسخ فينا معاني الإيمان والتقوى والإحسان، وتعلمنا كيف نعيش حياة كريمة مفعمة بالخير والسلام.
لقد تركت إذاعة القرآن الكريم بصمة لا تمحى في تكويني النفسي والروحي، فقد ساهمت في تشكيل شخصيتي وهويتي، وغرست في قلبي حب كتاب الله تعالى، وجعلتني أدرك أهمية التدبر في معانيه والعمل بأحكامه.
كبرت وكبر معي هذا الحب، وأصبحت أدرك الآن قيمة هذا الكنز الثمين الذي ورثناه عن أجيال سابقة، وأدرك أيضا دور القراء المصريين العظام في إيصال هذا الكنز إلينا بأبهى صورة وأجمل حلة.
كبرنا، وصرنا نحفظ مقدمات برامجها، وأصوات مذيعيها، وبراعة الاستهلال التي يملكونها، تحلقنا في رمضان حول موائدنا ننتظر صوت انطلاق المدفع يعقبه آذان المغرب بصوت الشيخ محمد رفعت، وحين ينتهي الشهر الكريم، ويمر العمر ادير الراديو في مطبخي وأنا أعد الفطور لابني قبل ذهابه للمدرسة، اتفاجئ أن الإذاعة قد امتلأت باعلانات خطفتني من جنة القراء، إلى سلع الدنيا وتنافس الشركات أصحاب المنتجات.
مرت سنوات، والحال كذلك، وبح صوتنا بالمطالبة بعودة إذاعة القرآن الكريم لسابق عهدها، فثمة شيء فيها صار ينقصنا، حتى استيقظنا اليوم على خبر عودتها كما كانت، ترتدي حلة القرآن فقط، بلا ضجيج وبلا تنافس المعلنين، عادت لنا إذاعتنا كما عهدناها، فشكرا للسيد أحمد المسلماني الذي أعاد إحياء إذاعة القرآن الكريم.