خالد دومة يكتب: الراعية "7"

الخميس، 26 ديسمبر 2024 04:30 م
خالد دومة يكتب: الراعية "7" خالد دومة

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

ما من نبي إلا ورعى الأغنام، مهنة الأنبياء، السياحة في عالم آخر، انطلاق الفكر من عقاله، يسبح في الفضاء، يهيم في جوانب الكون الفسيح، يطوف ملبيا بعظمة الله، يهدي الحيارى، يتوسط لهم، ليقبلهم الرب في حظيرته، حملان وديعة يخشى عليهم من الذئاب، فالذئاب تترقب دائما غفوة، كي تطيح فسادا، تبقر بطون، وتسيل دم أعناقها فوق تراب البراءة، يحاول الأنبياء، أن يحيطوا بالإنسان، كي لا يفلت من بين أيديهم، فتناله الذئاب، تفتك به ...

ما من نبي إلا ووقف على رأس جبل بعصاه فوق التلال، على الأرض المنبسطة، في السهول والوهاد، يضرب فوق الصدور، يكشف ما بها من مرض، يلمس بعصاه موضع المرض بالدواء والكلمات، إنهم أطباء أرواح، ينتصرون للروح، يطببونها لتنزع من جوفها رواسب ما خلفته الذئاب في الحظيرة، غفل عنها أهلها.

إنهم يعيدوا لها ما طمس، منذ الهجوم الشرس، صيانة الحظيرة، القيام بحفظها، إبعاد الذئاب عن متناول مخالبها...مهنة الأنبياء، الرعاية، الكلاءة، البحث عن نجاة القطيع، كم هي مهنة شاقة، الناس يتفلتون إلى ما يضرهم، إنهم نسوا عهد الرب، يقف الأنبياء بعصاهم يهشون عن الناس، ما تراكم حولهم من ذئاب، من فساد، يريد أن يسطو عليهم، كنت أحيانا أشعر بأني أنا أيضا نبية، أقف في محرابي، أنصح، أهش عن غنمي، ما يترقبهم من مصارع، أفكر فيما يحيط بي، أرسلني الرب، كي أحرص قطيعي، أسيح في الفضاء، كما ساح الأنبياء، أترقب عظمة الكون المحيط، أترك لعقلي، يحلق في الأشياء، أخلوا في صومعة مكشوفة، تظللني السماء بسقفها الواسع، تمتد بي الأرض، أصعد أهبط أسلك كل الدروب، ثيابي المهلهلة، ثياب أنبياء، قدمي العارية، قدم أنبياء، وجهي المغبر من تراب الأرض، عيني حين تنظر ما خفي أكثر مما ظهر.

أتفرس أصوات ما تقع على أذني، إن لها تسبيحا خاصا، ترانيم تشدو بها الكائنات، تستغيث تتوجه بالدعاء، تشكو ظلم الإنسان، حين تطال أيديهم إلى تشويه الحياة، بالفساد، أنصت للهواء، حين يأتي شديدا، يقتلع جذور الأشجار الضعيفة، والعواصف تهب، والشتاء القارص، كأنها أصوات اعتراض، شكوى موجهة للرب، تحملها الرياح، تشق كبد السماء، لتعلو أنين ينتفض إليه الوجود، كنت أصغي تماما بقوة، فتحمل رسالة، لا بد أنني نبية، أدرك ما يدركه الأنبياء، استمع إلى الأصوات كما يستمعون، تتهيأ نفوسهم، للتغير، لرفع الظلم، لنشر رسالة الخير، بين الناس، أقوم مقام الأنبياء، أتأمل الكون الفسيح، أقف في وقار، أستند إلى عصاي، شعري المجعد، ووجهي المترب، ومخالبي الدقيقة، وعينين الضيقتين، تسبحان في الفضاء، أتسال كيف كان يفكر الأنبياء؟ عندما يقفون مثلي على رؤوس التلال والجبال، يراقبون الوجود، ماذا كان يطرأ على عقولهم؟ وما هي نهاية التأمل فيما يحيط بهم؟

لكنني لست نبية؟ فما أدراني بهم، وبما يشعرون به، لعلهم كانوا يرون أشياء، لم نراها نحن، ولو دققنا النظر إليها، هم يرون بعين قلوبهم، فقلوبهم ليست بالتأكيد كقلوبنا، إنهم أطهار أبرياء، صنعهم الله على عينه، وأدبهم بأدبه، أما نحن فإن تربيتنا على أيدي الآباء والأمهات، الذي ينتابهم النقص، ويخطئون ويتأرجحون، بين الخير والشر، بين اليأس والرجاء، الفرح والحزن، فكنا خليط من هذا كله، أم هم، فأخطاهم طفيفة قليلة، تملي عليهم ضمائرهم النظيفة، كل خير ورحمة وعطف، صدورنا تغلي بالمتناقضات كالمرجل، وصدورهم كالماء العذب ينساب ويتدفق، ليروي ويبعث الحياة في الأموات، يوقظ أراوحهم، ويضيء لها معالم الطريق، فتسعى على بينة ونور وهدى، فهم أعلى مستويات البشر، أقربها إلى السماء ونفحاته، أما نحن، فنلتصق بالأرض، وتغبر وجوهنا أتربته، وتعلق في نفوسنا من طينه وأوشابه الكثير، ونظل نجاهد في أن نزيل قدر الإمكان، ما علق بنا، رغم أن ما علق كثير، ولكننا نظل نحاول تنظيفه، لنبدو على صورة الأنبياء، ولو للحظات بسيطة.

وأنا أقف الآن أستشعر هذه اللحظات، وأحاول أن أعيشها، كما يعيشها الأنبياء، أتقمص روحهم الشريفة، وأخلاقهم العالية، أطلب من الرب، تلك اللحظات فقط، حين أنظر إلى السماء، أتأملها، أدب بعصاي الأرض، أرتدي أضعه على رأسي، ليبدو قديسة، أوجه كلمات إلى قطيعي، وأنتم يا أبناء الحيوان، أسعدتم بتلك المروج الفسيحة، تأكلون وتمرحون، ولا تشكرون، لا هم لكم إلا أن تملأوا بطونكم، من الحشائش، من الكلأ، ثم تذهبون إلى النهر، لتروا عطشكم، ألا تنظرون إلى السماء قليلا، دائما وجوهكم ناحية الأرض، حثا عن الكلأ أين حياتكم إذن، تولدون تكبرون، وتحملكم أرجلكم، حيث تريدون، ولا يعينكم سوى البطون، تسعون لحشوها، ألا يلفت نظركم، جمال ولا أسماعكم صوت الموسيقى، وزقزقة العصافير، وصوت الرياح، وصدى الأصوات، ألا يحرككم شيء، مما يحيط بكم، من جمال وروعة، ألا تنفعل أعماقكم لشيء، شيء واحد تقفون أمامه ساعة تبصر، إنكم هلكى، الموت هو مصيركم المحتوم، ككل كائن حي، تبعثرون الأيام والسنوات القليلة، في البحث كما يصلب الجسد، وتتناسون ما يشد عزم الروح، تبا لكم يا بني الحيوان، تعسا لكم، تهب نسمة شاردة، توقظني مما كنت فيه.

ماذا أفعل، أتحدث إلى القطيع بالحكمة، ماذا لو رآني أبي أو أخي، سيقولون جنت الفتاة، استعدت وعيي مرة أخرى، بعد أن جمح بي الخيال، إنها ليست المرة الأولى، الذي أتمثل فيها شيئا، إن الوحدة هنا مع قطيع أغنام تفتق ذهني عن أشياء، ربما كنت أميل إلى الجنون والشتات، ولكن لا بأس طالما أنا وحدي، ولا يراني أحد فأنا بين أغنامي شخص أخر ولن تفضحني، أو توشي بي إلى أحد، وربما هي تستمع بجنوني هذا، وقد اعتادت عليه، فعندما أنظر في عيونهم، أشعر بسعادة، أني أشعر بهم، في الأوقات المختلفة، حين يملأهم السأم، أو الضيق، أو حين يصابون بأي مرض، أعرف كل هذا من نظرة خاطفة، إلى مجموعهم، حين أنطلق بهم في الصباح، وأشعر أحيانا أنهم يشعرون بي أيضا، وأن كلمات تعظهم، وتسمعونها بشيء، من الاهتمام، ولو قليل ولا يسخرون مني، عندما أحادثهم بتلك المواعظ، ولعب دور النبي، أعود إلى ظل الشجرة، وقد أنهكتني الموعظة، وأنا أقدمها واقفة، في الشمس، ألتقط أنفاسي، لا بد أن الأنبياء، كانوا ينامون في القيلولة، يأخذون قسطا من الراحة، ساعة الظهيرة، فأنا أقيل ساعة، جسدي ينام، لكن روحي لا تنام، تبقى يقظة، خشية الضياع، إن قلوبهم لا تنام، وإن نامت أجسادهم كنت كذلك، فقلبي الصغير لا ينام أبدا، دائما في يقظة، يشعر يضخ دما، لا يتوقف أحس به في يقظتي ومنامي، فهو يوقظ جسدي، إذا ما كان هناك خطر محدق، لا يهدأ بين جنبي، يخبرني دون حديثه، فكلماته وأحاديثه دون صوت، دون أحرف، وكلمات، فهو يملأني بلا كلمة واحدة، لم يكذب علي قط، لم يخدعني، ولو مرة واحدة، كان صوته العالي، بلا صوت، هو صرخة في أعماقي، تنبهني ترشدني إلى ما يجب، وتحذرني من قرب شيء، يهددني فإذا بي أحتاط آخذ حذري، أتأهب للقاء، ما لا أعرف، ولكن صوته يأتي بلا شك في بداية الأمر، كنت أتجاهل صوته فتحدث الكارثة، وأنال عقاب ما تجاهلت، وعيت أن ذلك الصوت الخفي حق، وأنه ليس وسواس، يأتي من الشيطان، تعلمت منه أن الحقائق قليلة وأن ما يصدر عنه، لا يأتيه الباطل، من بين جنبيه، علا شأنه عندي، حتى جعلت زمامي بين يديه، وتحت لوائه، انتصر له وبه، وأعيش في كنفه. أتناول شيء من طعام أمي، التي تعده يوميا لنا وأتجرع من الجركن المحاط بالخيش، ليظل الباء بارد، وأخرج عروستي من الخرج، والعب معها، فقد أهملتها كثيرا اليوم، ولا بد أنها غاضبة مني الآن.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة