عصام محمد عبد القادر

الكُتّاب.. بناء الإنسان عبر منبر الأوقاف

الثلاثاء، 10 ديسمبر 2024 02:16 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

تُسهم الكتاتيب فى بناء الإنسان بصورة مقصودة ومؤسسية تقوم على إكساب الفرد العديد من الخبرات المرتبطة بمعارفه وممارساته، وتعزز لديه الوجدان السامى فى تعامله مع أقرانه والآخرين من أسرته وبنى مجتمعه، وتؤكد فلسفة التعليم فى الكُتّاب على فكرة الإتقان وماهية تفريد التعليم فى أن واحد، وفى نهاية المطاف يتمكن الجميع من حفظ آيات الله العزيز بطريقة صحيحة تخلو من اللحن، أو التحريف، أو كل ما يخالف صحيح التلاوة.


وتُعد الكتاتيب مؤسسة تعليمية جاذبة لكل الفئات العمرية؛ حيث لا يتشرط سن للالتحاق بها، ومن خلالها تبث الفضيلة التى يستلهمها منسوبوها من معان الآيات الكريمة فى ضوء شروحات مبسطة من قبل المتخصصين الذين يمتلكون الخبرة فى المجال، والقادرين على إحداث تغيير منشود فى كل من يعلمونه التلاوة الصحيحة، ويتداولون معهم تفسير القرآن الكريم وما يرتبط به من تعزيز للخلق القويم والأداء الحسن الذى يؤجر الفرد عليه فى الدارين.


وبالرجوع إلى تاريخ الكتاتيب رصدنا أنها كانت تهتم بتعليم القراءة والكتابة مع حفظ القرآن الكريم، ويضاف لذلك أجزاء من الفقه، وبعض العلوم الشرعية والعربية، ومبادئ الحساب، ومن ثم صارت الكتاتيب مؤسسة للتعليم الأساسى لدى منتسبيها، وكان يخصص لها أماكن غالبًا ما تكون بجوار المسجد، وفى دول أخرى غير مصر له مسميات مختلفة؛ فأهلنا فى السودان يطلقون عليه أسم الخلاوى، بينما أهلنا فى المغرب يسمونه بالمحاضر.


والاهتمام بالكتاتيب مرتبط بحب اللغة، وتعضيد الهوية العربية، وتعزيز اللسان الفصيح التى تخرج من التراكيب الرصينة والتعابير الراقية والرقيقة والمؤثرة والمعبرة عما يجيش فى الصدور من معان، وهنا لا نرصد حالات لاعوجاج اللسان، أو تحريف الكلم، أو تناسى وتجاهل صحيح اللغة، وما تحمله من تراث لأمتنا العظيمة التى نفخر بالانتساب إليها فى كل حين ومجمع.


وتكمن أهمية الكُتّاب فى العديد من الأمور منها تنمية مقدرة الفرد على التذكر والحفظ والاستيعاب والفهم العميق لكثير من القضايا المتعلقة بآيات الذكر الحكيم، ويصل المتلقى لمستويات متقدمة فى عملياته العقلية ليتمكن من المقدرة على التفسير والتحليل والتركيب والقدرة على إصدار أحكام تستند على شواهد وأدلة، وهذا ما نسميه فى عصرنا الحديث مستويات اكتساب المعرفة وفق أصول تدرجها وتسلسلها وتكاملها، بما يؤدى لفقه المعانى والوصول لمراحل البلاغة المتقدمة.


وفى هذا الخضم تسهم الكتاتيب فى بناء أجيال تمتلك المواطنة الصالحة عبر هوية عربية قويمة تحمل فكرًا رشيدًا تستطيع أن تبنى وتعمر وتبحر فى كل علوم الدنيا؛ لتحدث نقلات نوعية غير مسبوقة فى كافة المجالات، وتحافظ على ثقافتها، وفى القلب منها اللغة العربية الفصحى بجمالها ومكنونها الراق، الذى تفتقر له لغات العالم قاطبة، وهذا ما يساعد فى استكمال بناء حضارتنا العظيمة، وطريق آمن للنهضة والنمو المستدام فى مجالات الحياة المختلفة.


ونزعم أن الكُتّاب من الأهمية بمكانة؛ حيث يؤهل الفرد لمراحل التعليم مالكًا الجاهزية لاكتساب مزيد من الخبرات النوعية، لديه رغبة وشغف وحب استطلاع تجاه استكمال مراحل التعليم المتقدمة، كى يحقق إنجازات تعليمية متتالية؛ فيخرج علينا العالم الفقيه صاحب الفكر المستنير والطبيب الذى يتقن تخصصه ويتقى ربه فيما يؤدى، والمهندس المبتكر صاحب الرؤى السديدة فى مجاله، والمقاتل الذى يدافع ويزود عن تراب وطنه بعقيدة راسخة ووجدان خالص، والمفكر صاحب العطايا التى تنهمر من أذهانه أقداح المعرفة والفلسفة العميقة التى تضيف لرصيد الأدب والثقافة، والعامل الماهر الذى يمتلك مهارات سوق العمل فى تخصصه الدقيق، إلى غير ذلك من تخصصات وأعمال للرجال والنساء يصعب حصرها.


ومن زاوية تربوية نؤكد أن حفظ وتلاوة وعمق فهم آيات القرآن الكريم تنمى مهارات التفكير لدى الأبناء، وتحفز الذاكرة على الاستدعاء، وتزيد من مقدرة الفرد على الربط والاستنتاج، وتعزز من مدخلات الثقافة، وتقوى لغة المنطق والبيان، وتزيد من الثقة بالنفس، وتعلى من الهمة والعزيمة، وتجعل الفرد قادرًا على الوصال والتواصل، لديه الحكمة البالغة فى أمور الدين والدنيا، يتطلع دومًا لنفع البشرية قاطبة.


ما أحوجنا للكتاتيب وما أجملها من مبادرة تبنتها وزارة الأوقاف بدعم ورعاية من الدكتور أسامة الأزهرى صاحب الفكر المستنير والرؤية بعيدة المدى؛ فما أشار إليه الوزير يصب فى بوتقة بناء الإنسان بشكل مباشر وسريع، ويحقق نتائج تتسم بالسرعة والاستدامة، والشاهد على ذلك حب المصريين قاطبة لحفظ القرآن وتلاوته فى كل مكان وزمان ومناسبة؛ فالارتباط الوجدان بكتاب الله الكريم يطغى كل مناحى الحياة دون مبالغة.


إننى أشيد وأثمن عودة الكتاتيب فى ربوع وطنا الحبيب؛ لتعلو صيحات أطفالنا بكلام الله وتقدح الأذهان بمعان طيب الكلم، وتقر الأنفس وتهذب، وتصبح السلوكيات فى مكانها الذى ننشده مرتبطة بقيمنا وخلقنا الحميد، تحض على الطاعة وتتجنب الوقوع فى الزلل، لتسمو الأرواح وترى نور الهداية فى الأفق ساطعة.. ودى ومحبتى لوطنى وللجميع.

--------------------

أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة