ناهد صلاح

هـدى سـلطان.. الصوت المراوغ وإن كنت ناسي أفكرك!!

الأربعاء، 16 أغسطس 2023 04:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

عندما بدأ يومي أمس بصوت هدى سلطان، وأعرف بالصدفة أن هذا اليوم هو ذكرى ميلادها الـ 98، فإنها مصادفة سعيدة حقًا وأمر مبهج أن أباشر نهاري بذكرى ميلاد وليس بتذكر الرحيل، وبصوت جميل فيه الكثير من الاستبشار و المَسَرَّة ما يطرح نوعًا من الالتماس الإنساني في الروح، أتصوره أمرًا عادلًا في حياة محتشدة بالرعب، بدا صباحًا فائقًا مع "بهيجة" عبد السلام عبد العال الحو، الشهيرة بـ"هدى سلطان"، جولة خيالية ضد الحرب، الرعب والعنف والقبح والأوبئة وكل ما يهددنا في هذا العالم.

 صوت هدى سلطان بأغنيتها الشهيرة "إن كنت ناسي أفكرك" من تأليف محمد علي أحمد وألحان رياض السنباطي، وهي بالمناسبة انطلقت من فيلم "جعلوني مجرمًا" (1955) إخراج عاطف سالم، ثم أصبحت ذائعة الصيت وربما الأكثر شهرة من بين أغنياتها على مدار أجيال متلاحقة، تلقفت الأغنية وقدمتها في مناسبات مختلفة، لكن صوت "هدى" بما يمتلكه من طزاجة وذبذبات فاتنة، قادر على أن يأخذ مستمعيه إلى مطارح جديدة لا أبالغ إن قلت أنها مبتكرة. نعم، إنها خَلاَّقة في مرحها ومتمكنة في تحويل حزنها الطفيف إلى فضاء واسع من الأُلفة والحبور.

 لن أتحدث عن الدهشة التي عشناها معها في أدوارها المتعددة التي شكلت تاريخًا فنيًا عظيمًا، مترعًا بالموهبة والإبداع، رشحها لتكون واحدة من معجزات التمثيل العربي بأدائها الطالع من عمق الذات وصلابة الحضور، لن أرصد محاولاتها لكسر التقليد في المشهد التمثيلي عمومًا أو عن "امرأة في الطريق" (1958) إخراج عز الدين ذو الفقار، أو تباينات حضورها خلال أكثر من 140 عملًا، رصيدها سواء في السينما أو المسرح أو التليفزيون، أجادت خلالها جميعًا إلى درجة الإبهار الوقوف أمام الكاميرا أو الوقوف على الخشبة، لتكون "عشر نساء في واحدة" كما وصفها عنوان كتاب الناقد الكبير كمال رمزي، الصادر في العام الماضي عن مهرجان الأقصر للسينما الإفريقية، وبالتالي لن أُحلل كيف أن ممثلة من طينتها كانت قادرة على خوض أساليب متباينة في التمثيل بعفوية وبساطة، لم تتصنّع أو تُبالغ في سلوكها أو أصف كيف كانت تعرف إلتقاط اللحظة المناسبة ببراعة المحترفين، وكيف كانت تعيش مسار وتحولات الشخصية التي تجسدها وتجعل الأمر مثير للمتعة البصرية، لن أقول أن الموهبة كانت دائمًا حاضرة وموجودة وأن الأساس كان متينًا، إنما سأقف لحظة عاجلة عند أغنيتها في صباحي هذا:" إن كنت ناسي أفكرك".

 أسمعها وأحبها كثيرًا في "يا ضاربين الودع" من كلمات عبدالعزيز سلام وألحان محمد فوزي:"يا ضاربين الودع .. هوه الودع قال إيه؟ خصام حبيبي دلع؟/ ولا خصامه ليه؟ / ليه .. ليه .. خصامه ليه؟/ شوفولي بختي .. وقولولي ع المخبي فين"، هنا هي فتاة صغيرة تسأل بدلال عن أمر محير في نبرة رائقة تتوازى مع ألحان محمد فوزي التي تؤسس للدلال والدلع، كما استأنس بحضورها صوتًا وصورة في "تسلم يا قلبي" كما رأيتها في فيلم "رصيف نمرة خمسة" (1956) إخراج نيازي مصطفى، وهي أغنية لحنها أيضًا وأهداها لها شقيقها محمد فوزي من كلمات مأمون الشناوي:"عمري ما دقت الحب غير لما حبيتك. ولا شفت راحة قلبي إلا وانا في بيتك. تسلم .. تسلم .. تسلم لقلبي. وتعيش لحبي"، امرأة تبحث عن مرفأ أمان وحين وجدته عبرت عن فرحتها العارمة دون بخل أو تقتير، كما أقدر حالتها الاستثنائية وهي تؤدي:"يا عزيز عينى وانا بدى اروح بلدى أغني بيها عيني واغني فيها" كلمات فتحى قورة لحن منير مراد، غنتها بداية في فيلم "حب ودلع" (1959) إخراج محمود اسماعيل.

 حالات كثيرة، متنوعة قدمتها هدى سلطان في أغنياتها التي خرجت من أفلامها إلى الحفلات الجماهيرية وتفاعل معها الناس بحفاوة، لكني كنت دائمًا أتلهف على أغنية "إن كنت ناسي... أفكّرك"، ليست لأنها من أجمل الأغاني العاطفية التي لحنها رياض السنباطي، لكن هناك رابط قوي يربطني بالأغنية التي سمعتها وشاهدتها أول مرة في فيلم "جعلونى مجرمًا" (1955) إخراج عاطف سالم، حين شاركت بطولته مع زوجها وحبيبها حينذاك فريد شوقي، أي بعد نحو خمس سنوات من زواجهما و11 عامًا قبل طلاقهما، تقول كلمات الأغنية التي كتبها محمد على أحمد:" إن كنت ناسي أفكرك/ يا ما كان غرامي بيسهرك/ وكان بعادي بيحيرك بيحيرك/وان كنت ناسي أفكرك/ أفكرك بالليل وشجونك واحلفلك عالشوق بعيونك وفرحتك وانت بتحكي قصة هوايا/ولوعتك وانت بتشكي من طول أسايا".

صوت هدى سلطان في هذه الأغنية يتألق ويتلون كما لو أنها لم تغني هكذا من قبل، بل أحيانًا أشعر أن لا أحد يُغنيّ كما تُغني هي في هذه الأغنية، مع العلم أن هناك أخريات أعادوا غنائها أو قدمن أغنيات من هذا النوع الذي يرغب في تهديد الحبيب، لكن لم يسبق لي أن سمعت أرقّ وأنعم من أسلوب هدى سلطان في تهديدها حبيبها وهي تعدد له حالته السابقة ودرجات غرامه وشغفه بها، إنها تراوغه وتذكره بالذي مضى، بينما هي راسخة، قوية، لديها ثقة زائدة في نفسها وتمتلك حسًا فكاهيًا بنفس مقدار حزنها الذي غالبًا لا تظهره.

 من المعروف والمتداول أن هدى سلطان عانت كثيرًا حتى فرضت لنفسها مكانة مهمة في المشهد الفني، في البداية عارضها شقيقها المطرب والملحن الكبير محمد فوزي، وهما من أصول إجتماعية مُحافظة (قرية قريبة من طنطا)، لذا ينتابني شعورًا ما أن هذه الأغنية بالذات هي واحدة من انتصاراتها التي رسخت خطواتها الفنية، وعبرت عن شخصيتها التي لا تمتثل إلى الضعف أو الاستكانة، إنها لا تكتفي بأن تظهر قوتها فقط وإنما تخبر أيضًا حبيبها الذي تعالى على حبهما بضعفه هو وتقوله "أفكرك".. ومن البديهي أن ترتبط الأغنية بثنائيتها مع فريد شوقي، ليس لأنهما تشاركا بطولة الفيلم الذي خرجت منه الأغنية، وإنما لأنها عاشت معه القصة الأكثر عاطفية ولعلها الأكثر في الحضور العائلي وكذلك الأبرز في النجاح الفني.

 أحيانًا أتساءل كيف فعلها رياض السنباطي بهذا التمازج بين الألم الداخلي والمكابرة والعناد الخارجي، فيدخل صوت الست هدى هادئًا ومشاكسًا في ذات الوقت من مقام "سوزناك"، وهو من عائلة مقام الراست الشجي، الأصيل، حيث يعد مقام الرست أو الرصد من أهم المقامات الشرقية، يُسمونه "أبو المقامات"، و"سوزناك" هو أحد انتقالاته ويستخدم مثلًا في التقاسيم والمواويل، وهنا تقوم هدى سلطان بالتقسيم كما لو كانت تهنأ بلعبة تتنصل فيها من الألم وتورط فيه حبيبها بضربة لا مرد لها، تسأله:" بدلت ودك ليه .. ليه بالآسية/ وكنت قبلَ بتخاف عليه؟"، ثم تعود فورًا لتؤكد أنها ليست ضحية ولا تقوم بمحاولة يائسة لاسترداده، بل تُذكره مجددًا بما كان عليه:" ياما كان غرامي بيسهرك/ وكان بعادي بيحيرك/ وان كنت ناسي .. أفكرك".

 










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة