عادل السنهورى

"هنا القاهرة.. جاءنا البيان التالى".. أخطر 5 بيانات فى حرب أكتوبر

الأربعاء، 04 أكتوبر 2023 07:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
عند الساعة الرابعة و6 دقائق يوم 6 أكتوبر المجيد عام 1973.. تغير لون كل شيء فى مصر.. الظلام الحالك السواد تحول إلى بياض ناصع مثل بدر التمام لحظة الاكتمال بسطوع نوره الباهر.. الحزن والانكسار أصبح موجا هادرا من الفرحة والانتصار.. طارت القلوب من الصدور من فرط الفرح بعد طول انتظار ذاق فيه المصريون آلام الانكسار ومرارة الهزيمة. عند الساعة الرابعة من هذا اليوم الفارق فى حياة الشعب وتاريخ أمته غنى الطير والشجر والحجر قبل البشر.. تهللت الوجوه التى اكتست بالكآبة ببشارة النصر.
 
ارتسمت الشوارع والميادين والحوارى والأزقة بأجساد ملايين البشر من أطفال ونساء وشباب وشيوخ هذا الشعب الصابر الصامد، وانفجرت ينابيع الفرحة داخل كل بيت وكل مكان فى مصر، تعبيرا عن لحظة العزة واستراد الكرامة والأرض والعرض فى معركة الشرف والمجد.
 
فى هذا اليوم كل شيء كان يسير بصورة طبيعية واعتيادية.. أيام وليالى رمضان قد انقضى منها 9 أيام، وأصوات كبار قرائنا تتضوع فى الأجواء الرمضانية.. الفرق المسرحية تواصل عروضها و"مدرسة المشاغبين" بأبطالها الشباب عادل إمام وسعيد صالح ويونس شلبى تشغل بعض من الرأى العام وتثير الجدل، وفيلم " خلى بالك من زوزو" يحقق أعلى إيرادات السينما المصرية.. الدورى العام فى أسبوعه الخامس وقد تعادل الزمالك وفاز الأهلى بالأمس الجمعة، وغزل المحلة بطل دورى موسم 72/73 يلعب ضد فريق الطيران فى ملعب الترسانة فى ميت عقبة.. المدارس تبدأ اليوم الأول من الأسبوع الثانى فى العام الدراسى وطلاب فترة الظهيرة ما زالوا فى انتظار الانصراف من الطابور إلى مقاعد الدراسة فى الفصول.. الأسواق مكتظة بالناس لشراء مستلزمات الإفطار.. الطقس ما زال يميل للحرارة.. الصحف تنشر اجتماعا دبلوماسيا هادئا بين السادات وكيسنجر وزير الخارجية الأمريكي، وأنباء الكرة والفن وأسواق رمضان تسيطر من الصفحات الأولى للصحف المصرية السيارة.. الشيء الوحيد الذى كان ملفتا فى بداية هذا اليوم هو قرآن الفجر الذى يذاع من مسجد سيدنا الحسين ويستمع إليه كافة الناس استعدادا لصيام يوم جديد.. لفت الانتباه صوت القارئ الشيخ محمد أحمد شبيب وهو يقرأ آيات من سورة "آل عمران" تشد أزر الجنود وتستبشر بالنصر من عند الله.. لا أحد يعرف هل كان الشيخ يعلم بموعد الحرب فى ذلك اليوم أم انها نفحة إيمانية ببركة قرآن الفجر.. إن قرآن الفجر كان مشهودا.
 
المشهد على الجبهة كما رآه العدو يسير بالروتين المعتاد رغم قلق من معلومات متواترة عن حشود واستعدادات كبيرة وموعد قريب جدا لاشتعال شرارة المعركة. الجنود يمارسون عاداتهم اليومية فى لعب الكرة والغناء وغسل ملابسهم ونشرها.. كل شيء هادئ قبل لحظة الانفجار.
 
الإذاعة المصرية تذيع برامجها اليومية المعتادة وأغانى رمضان الشهيرة.. ثم فجأة ينقطع إرسال الإذاعة عند الساعة الثانية و10 دقائق من بعد الظهر بصوت موسيقى المارش العسكري. يتجمد الناس أمام المذياع، لم تكن أجهزة التليفزيون قد غزت البيت وقتها، الحياة تتوقف كأننا أمام مشهد سينمائى توقف فيه المشهد لا صوت يعلو فوق صوت المارش العسكرى انتظارا لما سوف يجيء بعده. العيون شاخصة والقلوب تنبض بعنف.. القلق والحيرة والخوف من أنباء لا تطمئن.. فجأة يتوقف صوت المارش.. ينطلق صوت المذيع حلمى البلك وبنبرة هادئة تثير الخوف: "هنا القاهرة.. جاءنا الآن البيان التالى من القيادة العامة للقوات المسلحة.. قام العدو فى الساعة الواحدة والنصف من بعد ظهر اليوم بمهاجمة قواتنا فى منطقتى الزعفرانة والسخنة فى خليج السويس، بواسطة عدة تشكيلات من قواته الجوية عندما كانت بعض من زوارقه البحرية تقترب من الساحل الغربى من الخليج، وتقوم قواتنا حاليًا بالتصدى للقوات المغيرة.. هنا القاهرة".
 
يتطاير صهيل الأسئلة من عيون المصريين والألسنة تلهج بالدعاء والأكف ضارعة إلى السماء.. يا رب استر.. ماذا حدث.. مشاهد النكسة ليست بعيدة.. هل هى هزيمة جديدة.
 
تمر 25 دقيقة كاملة والناس فى انتظار ما يطمئنهم ويبدد الخوف والقلق من صدورهم والحيرة فى عيونهم.. تتصاعد مشاعر الخوف والقلق حتى تأتى الساعة الثانية و35 دقيقة ويتوقف الإرسال مرة أخرى بموسيقى المارش العسكرى، ويأتى صوت المذيع يحيى عبد العليم معلنا البيان الثاني: "هنا القاهرة.. جاءنا الآن البيان التالى من القيادة العامة للقوات المسلحة: بيان رقم اثنين.. ردًا على العدوان الغادر الذى قام به العدو ضد قواتنا، تقوم حاليًا بعض من تشكيلاتنا الجوية بقصف قواعد وأهدافه العسكرية فى الأراضى المحتلة.. هنا القاهرة".
 
الأصوات تعلو وهتاف الله يكبر يصعد إلى السماء.. تبدد بعض القلق والخوف إلى الدعاء بالنصر لجنودنا البواسل على جبهات القتال.. أدرك الجميع الآن أن لحظة الحسم قد حانت وانطلقت طيور الناس تحلق فى السماء وتدفق الناس إلى الشوارع.. ليعلنوا: "كلنا جنود"، الكل يعلن استعداده للدعم والمساندة والمساعدة بأى شيء وبكل شيء.
 
بدأت تباشير النصر تلوح فى الآفق.. فيأتى البيان الثالث ليؤكد بدايات تحقيق حلم النصر الذى تعلق المصريون بأهدابه وتشبثوا به. فى تمام الثالثة عصرا يتلو حلمى البلك: "هنا القاهرة.. جاءنا الآن من القيادة العامة للقوات المسلحة البيان التالي.. إلحاقًا بالبيان رقم اثنين.. نفذت قواتنا الجوية مهامها بنجاح، وأصابت مواقع العدو بإصابات مباشرة، وعادت جميع طائراتنا إلى قواعدها سالمة عدا طائرة واحدة.. هنا القاهرة"، ثم يتبعه فى الثالثة والنصف بصوت يحيى عبد العليم: "هنا القاهرة.. جاءنا الآن من القيادة العامة للقوات المسلحة البيان التالي.. البيان رقم أربعة.. حاولت قوات معادية الاستيلاء على جزء من أراضينا غرب القناة، وقد تصدت لها قواتنا البرية وقامت بهجوم ناجح ضدها بعد قصفات مركزة من مدفعيتنا على النقاط القوية المعادية، ثم قامت بعض من قواتنا باقتحام قناة السويس ومطاردة العدو إلى الضفة الشرقية فى بعض مناطقها ولا يزال الاشتباك مستمرا على الضفة الشرقية لقناة السويس.. هنا القاهرة".
 
تتعالى أصوات الناس بهتافات "الله أكبر .. الله أكبر.. النصر لمصر".. الحلم بات حقيقة ورايات الأمل تعلو فوق مرتفعات اليأس والإحباط 
‎ثم وعند الساعة الرابعة و7 دقائق جاء البيان الخامس.. إنه بيان العبور.. والنصر المبين.. بصوت استثنائى هذه المرة ينطلق حلمى البلك ليقول أغلى كلمات سمعها المصريون‎: "هنا القاهرة.. جاءنا الآن من القيادة العامة للقوات المسلحة البيان التالي.. نجحت قواتنا فى اقتحام قناة السويس فى قطاعات عديدة، واستولت على نقاط العدو القوية بها، وقامت برفع علم مصر على الضفة الشرقية للقناة.. هنا القاهرة".
 
تأكد المصريون أن النصر تحقق وسقطت الأوهام وتحطمت جدران الهزيمة واليأس وانهارت الأساطير والشائعات.. وامتلأت الشوارع بملايين المصريون احتفالا بيوم طال انتظاره وتحملوا من أجله الكثير والكثير جدا.. لكن كل شيء يهون من أجل مصر وعزتها وكرامتها.. الكل يشارك فى المعركة تضامنا مع جنودنا.. الغناء يعلو بألحان وأناشيد النصر والفن يشارك فى دعم المجهود الحربى، ويقرر المسرحيون والسينمائيون التبرع بحفلات العروض المسرحية والسينمائية بريعها لدعم القوات المسلحة الباسلة.. حملات التبرع بالدم لا تتوقف.. التبرع بالمال والحلى وبأبسط الممتلكات فى كل قرية ومدينة فى مصر. 
 
تناول ملايين المصريين إفطارهم فى الشوارع.. وأمام البيوت.. عصير مدفع الإفطار أصبح شربات النصر.. الفرحة تعلو الوجوه ومشاعر الفخر والثقة تطير من بين الضلوع لتعانق الجنود فوق رمال سيناء وتباركهم.. لقد فاض طوفان النصر العظيم.
 









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة