الصور تتدفق من فلسطين بغزارة، تظهر فلسطين على الشاشة ليست كخارطة ممتدة الأطراف أو متقلصة، إنما كسؤال مستمر، مثابر، غير منقطع، يتابع الجميع الحدث الفلسطيني بعينين قلقتين وقلب مكسور على أمل قديم، راكد، جدير بمبتغى المحبين وتعكير مزاج العدو.
اللحظة الفلسطينية الراهنة تقودني إلى المشهد الأخير من فيلم "قائمة شندلر" (1993) إخراج ستيفن سبيلبرج، مشهد أحرق نفسه ونزع عن الفيلم براءة لا يفترض أن يدعيها.. جندي روسي يمتطي حصانه أثناء الحرب العالمية الثانية، يتقدم زملائه ويقف في مواجهة اليهود المستلقين على الأرض أمام بوابة مصنع رجل الأعمال الألماني أوسكار شندلر، بعد مشقة وأحداث عصيبة كابدوها، يخبرهم الجندي بأن الجيش الروسي قد حررهم، فيسألونه أين نذهب؟ يجيبهم بأنه لا يعلم، لكن من المؤكد أنهم لن يذهبوا نحو الشرق، فإنهم مكروهون هناك، ولا نحو الغرب فهم أيضًا مكروهون هناك. ثم يسألون عن الطعام، فيشير بيده نحو مكان بعيد ويقول: "أليست هذه القرية التي هناك؟" .. تتطلع أعينهم نحو الاتجاه الذي أشار إليه، ثم يحتشدون على أرض فضاء ويسيرون متشابكو الأيدي ويسرعون خطاهم تجاه "القرية" المزعومة، القرية "أرض اللبن والعسل" الموعودة، يغنون نشيد "قدس الذهب" العبري، نشيد إسرائيلي صدر عام 1967 يتحدث عن حنين اليهود لمدينة القدس وعدم قدرتهم على الوصول إلى بلدتها القديمة، ويعتبر نشيدًا قوميًا غير رسمي لإسرائيل، يعلو صوتهم ثم يتحول المشهد من الأبيض والأسود إلى الألوان لنرى الناجين من محرقة النازي على الأرض الجديدة.
هذا المشهد في حد ذاته يبدو كما لو أنه رصاصة إنطلقت فجأة في الفضاء الخرب لهذا العالم المعاصر، وبه تكتمل الدلالات في فيلم هو واحد من أشهر أفلام الحرب العالمية ومن أكثرها إثارة للجدل، سواء بالنسبة إلى إشاراته المستترة التي يطرحها في السياق الدرامي، بداية من تناوله المحرقة النازية، وصولًا إلى تلميحه المضلل عن القدس بأنها أرض بلا أهل، أو على مستوى الشكل والصورة؛ حيث صوّر الفيلم بتقنية الأبيض والأسود كنوع من الحيل الفنية المراوغة، بغرض التذكير بالماضي ومنح الفيلم قتامة وبعدًا مأساويًا، حيث كل شيء تعيس وغير مبهج ولا أمل فيه سوى هذه الطفلة الصغيرة والناجية من هذا الخراب، الطفلة التي ترتدي معطفًا أحمر، إنها الكائن الوحيد الملون وسط كل الأبيض والأسود الذي يسيج الفيلم ويطوقه، فخ جمالي رومانتيكي يحفز على تفكيك البنية الدرامية التي وضعها سبيلبرج في سيناريو مقتبس عن رواية تحمل نفس الاسم لكاتبها توماس كينلي، ويحكي عن المعاناة التي عاشها اليهود في بولندا أثناء الحرب العالمية الثانية، تحت الحكم النازي للألمان من خلال قصة رجل الأعمال الألماني أوسكار شندلر (ليام نيسون)، وهو يفترض أنه شخصًا غير مكترث بالسياسة، متمركزًا حول ذاته ومهتم بجمع الأموال، لكنه أنقذ حياة ألف ومائتي يهودي حين أراد أن يستغل وضع الحرب؛ فقام بتشغيلهم كعمال في مصنعه، وفي صحوة ضمير ساعدهم ليحظوا بالدخول في قائمته التي كفلت لهم الحماية، وساعدتهم كي ينجوا من المحرقة، ويفلتون من مخالب "آمون جوث" الضابط الألماني النازي ومدير معسكر "بلاسوف"، أحد معسكرات إبادة وتصفية اليهود في بولندا، الذي جسده النجم البريطاني رالف فينس كشخصية وصولية ومشبعة بالشرور.
يلح علي المشهد في الفيلم الهوليودي بكل ما تحمله من ترويج دعائي وبهتان وغواية شكلية، بينما يديرون الفلسطينية قبضتهم في وجه العدو الذي استولى على أرضهم وبيوتهم، وظل طوال هذه السنوات منذ منتصف الأربعينيات يروج لأكاذيبه بأن الأرض بلا أصحاب، وأن فلسطين قرية بلا أهل، يزرع العدو دباباته متاريسًا في كل ركن، ويقذف الفلسطيني بنيرانه وقنابله، لكن الأكاذيب لا تدوم إنما تواظب الأرض نفسها إنفجارها في موت مغتصبها وسارقها، ليست المسألة بلاغة لغوية، بل حقيقة تفيض واقعية وصورًا نتابعها عن كثب على شاشات تنبئنا كل واحدة بأسلوبها أن الدم هو الأصدق.
هنا يلاحقني سؤال آخر: أي فيلم يمكن أن ينجز ويوثق الحرب الجديدة هذه؟ هل ستكفي الصور فوتوغرافية كانت أو تليفزيونية لتوثيق اللحظة؟ هل اللحظة سيكون لها تداعيات وتبعات أخرى أكبر؟ هل يفترض أن تكون السينما موجودة أصلًا؟.. الأسئلة تتوارد مع كل حرب، وفي اعتقادي أن ما يحدث يستحق مواكبة سينمائية، تسجل ما يحدث بأبعاد مختلفة، تركز على التفاصيل الإنسانية كما تركز على الجزء العسكري والقتالي، تنقل الراهن من تخريب وقتل وتهجير ومواجهات، تكشف وجه القاتل، وتعجرفه وتباهيه بوحشيته وعنفه، كما تكشف إلى أي مدى هو رعديد وجبان، مقابل أطفال وشباب، آباء وأمهات لم يتأهبوا لعدسات التصوير ولم يتاجروا بمقاومتهم، فتحولوا إلى كابوس ولغمًا ينفجر في قلب من يزيحهم عن أرضهم، هؤلاء الذين لا يريدون أرضًا أخرى بديلًا لوطنهم.
كما أن للمتابعة الخبرية دور مهم وضروري في التسجيل والتوثيق، فإن السينما تحتاج أن تفعل دورها ليس بغرض ثقافي أو فني فقط، إنما لتكون هي "الذاكرة الخصبة" كما عنوان الفيلم الوثائقي الطويل الأول للمخرج الفلسطيني ميشيل خليفي.. الذاكرة التي تختزن الحدث وتصنع سينما تحتفي بالوجود الإنساني، وتفصح عن حقيقة القاتل.
الحرب الفلسطينية والمواجهات المحتدمة مع اسرائيل، يظهر فيها كيف أن العنف طاغي وكثير، كثافة النيران لا تحول عن الرؤية السليمة، بل تؤكد الوضع الكارثي الذي يعيشه الفلسطينيون، الوضع الذي يجب أن تنقله الكاميرات إلى العالم، لعل هناك ضمير ما، ولتقول أن فلسطين هنا وليس في مكان أخر، وأن أهل فلسطين هنا لديهم حياتهم وموتهم وحكاياتهم التي يجب أن يروونها، والصورة الطالعة من فلسطين تعكس لحظاتهم الإنسانية في واقع وعر، بصرف النظر عن كل تفسير سياسي أو أيديولوجي أو ثقافي، فالأولوية هنا للإنسان الفلسطيني على أرضه.
لو استعدنا كيف تعاملت السينما مع القضية الفلسطينية، سواء في السينما المصرية والعربية والعالمية، وخصوصًا السينما الفلسطينية، قديمًا وحديثًا، ففي رأيي أن الحضور السينمائي كان له تأثيره، صحيح أنه ثمة تباينات في التقييم الفني والدرامي، لكن للأفلام دورها في التواصل مع القضية والتعبير عنها، وصوغ حكايات وتفاصيل وانفعالات إنسانية مختلفة، وعلى أساسه فإن اللحظة الراهنة المنشغلة في إثبات الحق الفلسطيني، ووحشية المحتل الإسرائيلي يستلزم أن يتحول لاحقًا إلى أفلام تسجل أنه كان هنا دائمًا وطن له ناسه الذين لم يتخلون عنه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة