الكتب أشكال وأنواع، منها المفيد ومنها الممتع، لكن أحسنها المفيد الممتع، وإلى ذلك ينتمى كتاب "الأيك في المباهج والأحزان" للكاتب الكبير عزت القمحاوي، والذي صدرت له طبعة جديدة مزيدة عن الدار المصرية اللبنانية، إنه مشروع كتابي يقدم لك دليلا على الدور الحقيقي للكتابة في حياة الإنسان.
الكتاب رحلة في حياة الواحد منا في فرحه وحزنه، ففيه تتعدد الموضوعات وتختلف وتكتمل، لا تنخدع بإيحاء أن الموضوعات منفصلة، أبدًا فجميعها يربطها خيط من حرير الإبداع يمسك بجمال الجسد والروح ويظهره، ويعطي مساحة أكبر لتأمل الحياة، هذا الكتاب لا يعترف بالمرور السريع، لا يفعل ما يراه البعض بأننا مجرد عابري سبيل، لا، نحن مقيمون، ولأننا كذلك علينا أم نلمس بأيدينا ونعشق بعيوننا التفاصيل التي تحيط بنا، وقد فهم القمحاوى ذلك فكان إحساسه المروع بمرور الزمن في سنة 1999 هو هاجسه لهذا الكتاب.
في الكتاب تتجلى شخصية عزت القمحاوي، المعروف بالموسوعية وتتبع الفكرة، لا يغره السطح ولا يخدعه البريق الزائف ، بل يحدثك عن الجوهر، مثلا لو قلت لأحدهم ما الذى تعنيه لك "أصابع اليد" سيحدثك عن دورها البشرى وربما زادك بالحديث عن دورها في الموسيقى، لكن مع أيك عزت القمحاوى، ستجد دور الأصابع في الموسيقى وإشعال الحروب الصغرى في الحواري والكبرى بين الدول، سيحدثك عن أثر الإشارات السياسية التي تزعج الشعوب وعن أيدى نابشي القبور الخسيسة، بل إنه يتأمل الأصبع نفسه فيقول "الإصبع جسد أنثوى كامل".
في الكتاب حديث عن تاريخ الأفكار، وعن مستقبلها أيضًا، لذا نجد تاريخ الصوت وأثره ونجد ثقافة الرائحة في الإنسان والحيوان والطير، سوف تفاجئك المعلومات وتجد نفسك تفكر في أمرين، كيف حصل عزت القمحاوى على كل هذه المعلومات، وكيف اطلع عل كل هذه الكتب، ثم كيف أجاد توظيف هذه المعلومات بحيث تبدو كأنها تتداعى لا جهد فيها ولا تعب.
لن نستطيع حصر موضوعات الكتاب، لكن سنشير إلى الماء وثقافته وغوايته في الحياة والموت، عن طقس الاستحمام الذى هو مفتاح النعيم، عن الطعام الذى يفجر ينابيع المحبة، وعن مطارح الغرام التي تثير كل جميل، عن الفنادق وقلقها وتنميطها، عن المعمار ما بين ملامحه الأنثوية، ووظيفته كمصائد للهواء والظل، وما علاقة ذلك بالشراهة، ثم حديث جميل عن الشرفة وشجونها، من كونها عيون البيوت إلى تحولها رمزا للرغبة في الحياة، ومصيرها مجرد مخزن لكراكيب البيت.
يعطى عزت القمحاوى للمعمار فرصة أكبر في الكتاب فيحدثك عن عمارة الريبة، حيث المدن الجديدة التي تفقد دورها الجمالي وتتحول لمجرد أماكن للعودة من العمل والنوم، بما ينعكس على الشارع الذى يصبح طائشا بكل ما فيه.
في الكتاب جزء مهم عن "مسخ الكائن" فيه نبرة رثاء لأشياء كثيرة بل للإنسان نفسه، حيث الجسد المريض، والذى يعانى من النقص، وحيث "القفا" الذى هو بداية للهوان.
لقد أعجبنى عزت القمحاوى، بشكل شخصي، عندما توقف مع المطربة الكبيرة "نجاة" في فصل "سحق الرقة" فقد التقينا معًا، أنا وهو، في محبتها يقول عنها "كان صوت نجاة الصغيرة برسائله المغوية لذكورة الأرض، أفقا مفتوحا على الكمال الأنثوى".
ولم ينس عزت القمحاوى التقاط الصور بوصفها خزين الماضى، وكيف ينسى الناس أنفسهم في لحظة التصوير، ثم يعودون حزانى ووحيدين بعدها، ويتوقف أمام الصورة السيلفى وما فعلته في العالم، وصولا إلى كرة القدم بوصفها مباريات في الفن والحرب، وكيف تطور الحال بهذه اللعبة الشعبية أن يصبح معجمها لا يخرج عن معجم عشق امرأة واحتلال آخرين.
كل هذه الموضوعات الشيقة جاءت مصحوبة بالثقافة النفسية والتاريخية والاجتماعية وجاءت محصنة بالروايات والكتب المتخصصة، وطبعا بالكتابة الجميلة.
إن الأيك ومعناها الشجر الكثير الملتف قد تحقق بالفعل في الكتاب، ووضعنا في حالة من الوجد جمعت بين الحياتى والخيالى، وجعلتنا نشكر الله على نعمة الكتابة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة