أسباب عديدة آلت في النهاية إلى نزع هذه الريادة من يد الغرب؛ وبدلاً من مركز عالمي وحيد لإنتاج التكنولوجيا أصبحت هناك مراكز عديدة تنافس الغرب منافسةً عنيفة في الشيء الوحيد الذي برع فيه منذ أن تخلى عن طاقاته الروحية والفكرية، هذا الشيء هو التكنولوجيا، وهكذا لم يعد للغرب أي شيء يثبت به أحقيته في ريادة العالم؛ فقدم ذاته طوعاً لتلك المرحلة العمرية المتكاسلة اللطيفة التي نسميها سن المعاش.
انحسار الغرب؟ لابد أنك تهذي
هل هذا دربٌ من التفكير بالتمني؟ هناك نوعٌ من المغالطات المنطقية التي يعرفها دارسو المنطق اسمه (التفكير بالتمني)، أنت تتمنى انحسار الحضارة الغربية لذلك تجمع الأدلة والبراهين وتلفقها لتثبت لنفسك أن ما تتمناه يحدث بالفعل، وقد سألت نفسي هذا السؤال، وكانت الإجابة واضحة في ذهني تماماً، لا، لا أتمنى انحسار حضارة عظيمة كالحضارة الغربية على الإطلاق، لكن هذا هو واقع الحال، حتى مع كل هذه الإنجازات التكنولوجية الرهيبة التي صنعها الساحر الغربي ذو البشرة البيضاء.
إنها مجازفة كبيرة أن يخاطر إنسان بالحديث عن انحسار حضارة تملأ الآفاق بأمجادها التكنولوجية وتثير انبهار الجماهير من لحظةٍ إلى أخرى بسحرٍ تكنولوجي جديد، لكن هناك على الأقل عدد وافر من الأسباب، وإلى جوارها عدد وافر من أعلام الفكر والعلم ممن تشاركوا -على الرغم من كل ذلك- قناعة ما عن انحسار الغرب وحضارته.
حياة عملية مشرفة، لكن للأسف لن تستمر للأبد:
ثورتان علميتان كبيرتان وثلاث ثورات صناعية أسست لمجد الغرب، لكنها لم تعد كافية على الإطلاق لإن تعفي الغرب من الدخول في سن التقاعد عن العمل.
كان غرب أوربا قد أنجز في القرن السابع عشر ثورة علمية هائلة على يد عالم الرياضيات والفيزيائي الإنجليزي إسحق نيوتين، لقد غيرت قوانين الميكانيكا التي ابتكرها نيوتين وجه العالم وعلى نحو متسارع للغاية، ظلت تعمل ببطء حتى أنتجت الثورة الصناعية الأولى في نفس البلد التي ولد فيها فيلسوف التفاحة والجاذبية، سيل هائل من الاختراعات والسلع التكنولوجية بدأت بماكينة البخار ثم قطارات السكك الحديدية والسيارات وانتهت بالهواتف السلكية والطائرات والسنيما، حتى أن عيون البشر ظلت مندهشة وأفواههم ظلت مفتوحة في كل مكان من العالم لهذا السحر التكنولوجي الجديد.
بحلول النصف الأول من القرن العشرين كانت إنجازات الثورة العلمية الأولى قد بدأت تخفت إلى حد ما، وكان الغرب آنذاك على أهبة السقوط تماماً مع الحرب العالمية الثانية، لكن جاء زورق الإنقاذ مع الثورة العلمية الثانية. فيزياء الكم التي بناها أينشتاين وزملاؤه ممن سبقوه وممن أتوا من بعده، وفجأة أصبح مع الغرب فجأة سلاحٌ فتاك يخشاه الجميع.
جاءت الثورة العلمية الثانية بالتزامن مع الحرب العالمية الثانية، كانت هذه السنوات من أربعينات القرن العشرين بمثابة لحظة الموت ولحظة الميلاد الثاني للغرب في الوقت ذاته، كانت أوربا قد فقدت بنيتها الاقتصادية والتحتية تماماً مع الحرب، لكنها خرجت من هذه المعمعة منتصرة على أية حال، وفي يديها سلاح نووي فتاك، استطاعت أن تتقي به شر أبناء الحضارات الأخرى، ذلك بمجرد التلويح به، وهكذا أصبح بإمكانها أن تعيد بناء ذاتها من جديد وتصفي أعداءها بهدوء، إلى أن حانت لحظة الميلاد الثالثة.
كانت الثورة التكنولوجية الجديدة هي ثورة الاتصالات، لحظة الميلاد الثالثة التي ضمنت للغرب الكفاءة والريادة مرةً أخرى، إنترنت للجميع وهواتف محمولة وأدوات بحث متطورة على الشبكة الافتراضية ومواقع للتواصل الاجتماعي، وهكذا كان الغرب سكراناً تماماً بإنجازاته التكنولوجية المتلاحقة، وهو لا يعلم أن لحظة التتويج الثالثة هذه هي بعينها لحظة توقيعه على استمارة التقاعد من ريادة العالم في مجال التكنولوجيا.
حان وقت التقاعد عن العمل:
ستة أسباب جعلت من التكنولوجيا سلاحاً جباراً في يد الغرب، القوة الاقتصادية للتكنولوجيا، القوة الأدبية للتكنولوجيا، قدرة التكنولوجيا على سد احتياجات فعلية للبشر، قدرة التكنولوجيا على تحفيز الرغبة المجانية في الاستهلاك لدى البشر، القدرة على احتكار المعلومة الضرورية لبناء التكنولوجيات الجديدة، وأخيراً وهو الأساس الذي تنبني عليه كافة القوى الأخرى للتكنولوجيا: الثورات العلمية الكبيرة.
لقد تسربت هذه المقومات جميعها من يد الغرب واحدةً فواحدة، وتركته واحداً فقط من بين الكثيرين الذين ينتجون التكنولوجيا ويتاجرون بمنافعها.
القوة الاقتصادية للتكنولوجيا:
منذ تلك اللحظة التي أصبحت فيها المعلومات التقنية متاحة للجميع على شبكة الإنترنت، وأصبحت هناك فرصة متاحة لاستنساخ التكنولوجيا الغربية إلى ما لا نهاية، وقد برعت الصين كمثال يحتذى به للعديد من الدول في ذلك، وراكمت الأرباح على حساب الغرب، وفشلت كل محاولاته لإجبار الصين على الامتثال لقوانين الملكية الفكرية، وهكذا منح الغرب أعداءه السكين التي ذبحوه بها (هذا هو نفس التعبير الوارد بمقال سابق يحمل نفس العنوان على صفحة اليوم السابع).القوة السياسية للتكنولوجيا:
عندما فاجأ الغربيون جيوش العثمانيين ببنادق طويلة تخرج منها قذائف النيران، لم يكن هناك مجال لشيء سوى الدهشة العظيمة، وهي نفس الدهشة التي تلقف بها أبناء أفريقيا وآسيا المخترعات الغربية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وقع الجميع تحت سطوة الحاكم الغربي الجديد القادر على صناعة المعجزات، شكل هذا الاندهاش والإعجاب بالمعجزات التكنولوجية للغرب سلطة معنوية تمت ترجمتها لسلطة سياسية وأدبية عارمة على العالم كله، أما الآن فقد اكتفى الجميع من الدهشة، لم يعد هناك مجال للدهشة بسبب الاعتياد مرة، ومرة أخرى لأن المعجزات الحقيقية كانت قد حدثت بالفعل، ولم يعد أمام التكنولوجيا في العالم كله سوى تكرار ظاهري للمعجزات القديمة أو اصطناع معجزات تكنولوجية جديدة لا يحتاجها أحد، لا يفلت من هذا الأمر سوى استثناءات بسيطة لتكنولوجيات يحتاجها الناس مثل تطوير الأجهزة الطبية والتعويضية للمعاقين والمصابين.قدرة التكنولوجيا على سد احتياجات فعلية للبشر:
لقد نجح المحرك والسيارة وقطار السكك الحديدية والمضادات الحيوية والطائرات والهواتف والإنترنت على سد احتياجات حقيقية لدى البشر، لكن أغلب التكنولوجيات الجديدة التي أعقبت ثورة الاتصالات تفشل حتى الآن في سد حاجات فعلية حقيقية، ببساطة لأن التكنولوجيا حتى هذا الوقت كانت قد حققت كل احتياجاتنا الفعلية التي تستطيع أي تكنولوجيا أياَ كانت تحقيقها، أما أحلام الروبوتات التي ستخدم البشر وغزو الفضاء واحتلاله وصناعة المخ البشري الاصطناعي والأفاتار الذي سيظهر لك من شاشة الهاتف فهي أحلام لا تثير انبهار الجماهير لأنها لا تسد لهم احتياجات فعلية ولا تحفز حتى رغبتهم في الشراء، ربما يسخر أحدهم فيقول: لقد حققت التكنولوجيا كل أحلامنا، ولم يتبقَ سوى أن يخترعوا لنا تكنولوجيا جديدة تساعد البشر على إخراج روائح طيبة من مؤخراتهم.قدرة التكنولوجيا على تحفيز الرغبة المجانية في الاستهلاك:
هذا كلام قديم ردده الكثير من الفلاسفة والمفكرون الغربيون ومازال جديراً بالتذكر، مفاده أننا نستهلك الكثير من التكنولوجيات الجديدة للتباهي الطبقي، لإثبات أنني أنتمي لطبقة اجتماعية بعينها، الانتماء لطبقة قادرة على شراء الجديد من التكنولوجيا، أو حتى لسد حاجات نفسية مثل ضعف الثقة بالنفس والفراغ العاطفي والاكتئاب، جميعها أسباب تحفز الرغبة المجانية في شراء ما لا يحتاجه الإنسان، وبغض النظر عن أخلاقية الأمر من عدمه سواء بالنسبة للمنتج أو المستهلك، فإن هذه النقطة بالذات ساعدت الغرب على مضاعفة أرباحه من التكنولوجيا لزمن طويل، أما الخبر السيئ بالنسبة للغرب فإن العديد من المراكز الحضارية عبر العالم بدأت تنافس الغرب وتتفوق عليه في هذا الأمر (غير الأخلاقي) نفسه، أما الخبر الجيد بالنسبة لنا فهو أن نمط الاستهلاك هذا ربما لن يستمر طويلاً خاصةً مع الأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي تسبب بها الانفجار السكاني الهائل للبشر.القدرة على احتكار المعلومة:
كما تبين للجميع الآن أن لا أحد بإمكانه أن يحجب المعلومات التقنية والعلمية الضرورية لبناء أو استنساخ التكنولوجيا، خاصةً مع وجود الإنترنت، وهكذا ازدهر عدد لا بأس به من المراكز الحضارية القادرة على إنتاج تكنولوجيات تتفوق على التكنولوجيا الغربية في الكثير من الأحيان.الثورات العلمية الكبيرة:
لقد قامت التكنولوجيا في العالم كله على أكتاف ثورتي نيوتين وأينشتاين العلميتين، ومازال العالم منذ انقضاء الثورة العلمية الثانية يتخبط لإنتاج ثورة علمية جديدة تمنح الأمل في تكنولوجيا لا تنتهي، مرة بالسعي لإنتاج نظرية كل شيء، ومرة أخرى بالسعي لكشف السر العميق للعقل البشري، والخبر السيئ بالنسبة للغرب هو أن فلسفة العلم الغربية التي قامت عليها الثورتان السابقتان لم تعد صالحة لإنتاج ثورة علمية جديدة، لكنها ربما تأتي من حضارة أخرى ليست مقيدة بتقاليد المنطق الصوري الغربي الذي انبنت عليه الحضارة الغربية برمتها، باختصار ثورة علمية ثالثة ستقتضي منطق جديد وفلسفة جديدة.وهم التكنولوجيا
التكنولوجيا ليست إلا عامود واحد من أعمدة الحضارة، هناك الدين والفلسفة والأخلاق والفن والعلوم التي تهتم بنفس الإنسان وعقله، وإلى جانب ذلك هناك النظام السياسي القادر على دفع كل هذه الأبنية في اتجاه واحد، ومنذ أن غادر الغرب تطوير بنيته الروحية والأخلاقية، منذ أن أولى أعظم اهتمامه للعلوم التقنية على حساب العلوم الإنسانية الأخرى وهو يتخبط، لقد توقع ليسلو وهنري وبروكس آدمز وشبيلينجر وهايدجر وغيرهم من أبناء الغرب هذا الانحدار منذ وقتٍ مبكر وكتبوا عنه، ربما منذ ثلاثمئة عام كانت قد ظهرت أول نبؤة عن انحسار الحضارة الغربية، لكنهم لم يعيشوا ليعاينوا العرض الكبير لهذا الانحسار بأمهات عيونهم، لكن ثلاثمائة عام كان زمناً كافياً لأن تهدأ موجة التكنولوجيا الغربية العاتية و "تكشف من خلفها الانحدار الحقيقي الذي كانت تخفيه وتتستر عليه" هذه هي نبوءة هنري آدامز عالم التاريخ الاوربي في القرن التاسع عشر، وليس هناك تعبير أفضل منها عن وهم التكنولوجيا الذي وقع فيه الغربيون، ووقعنا معهم نحن أبناء الشعوب الملونة في الفخ نفسه لزمنٍ طويل للغاية، وللحديث بقية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة