نشاهد، اليوم، صورة لـ السقا فى بعض القرى المصرية، وبينما يقال إن الصورة تعود إلى سنة 1940، لكننى أعتقد أنها تعود زمنيا إلى أبعد من ذلك.
ولو فكرنا فى حال السقا فى مصر نجد أن كتاب "تراث مصرى" لـ أيمن عثمان، يقول: قديمًا كان لكل طائفة أدبياتها وشروطها الخاصة فى العاملين بها، وطائفة السقائين كانت من الطوائف صاحبة الخصوصية، فالسقا شخص يتعامل مباشرة مع السيدات، وهو أمر كان وما زال عند المصرى له حساسيته، لذلك فشروط الانتساب لهذه الطائفة كانت تدور فى فلك التدين والأمانة، متدينًا لمراعاة حرمة المنزل الذى يدخله، وأمينًا ومخلصًا فى عمله، فلا يستخدم قربة مصبوغة فتفسد الماء، ولا مثقوبة فتقل الحصة المتفق عليها، وكان لزامًا عليه أن يبذل مجهودًا مضاعفًا للوصول إلى تواجد المياه النظيفة بعيدًا عن المياه الراكدة والملوثة بالمخلفات البشرية وجيف الحيوانات، وكان عليه أن يطهر الماء بمادة الشبة، ويعطره بماء الورد وعيدان النعناع لزوم دلع الزبون.
أن تكون سقاء، عليك أن تخضع لاختبارات وكشف طبى وكشف هيئة، أن تختبر فى التحمل، وأن يشهد لك الناس بحسن السير والسلوك إن لم يكن والدك سقا قديمًا فيشفع لك للانضمام، فالطائفة كغيرها من الطوائف والمهن والوظائف والمناصب، محجوزة لأبناء العاملين، فابن السقا سقا، وابن الباشا باشا.
وبالنسبة لاختبار التحمل لغير أبناء العاملين، فله شكل محدد وتقليدي، يحمل المتقدم على كتفه قربة مملوءة بالرمل تزن ثلاثين كيلو جرامًا لمدة ثلاثة أيام دون أن يتكئ على حائط أو يجلس على كرسي، بعد النجاح فى الاختبار يخضع المتقدم للكشف الطبى لإثبات خلوه من الأمراض الجلدية والمعدية، ويمنح "رخصة سقا" مدون فيها اسمه ومحل سكنه، وسنه، ومحل ميلاده وجنسيته، وهى رخصة شبيهة برخص باقى الطوائف وبرخصة تحرير العبيد، لكن يميز رخصة السقا وجود رسم كارياتيرى لسقا يحمل قربة، وجملة "تسيير واعتماد سقا".. بعدها يباشر عمله الرئيسى بتوريد المياه للمحتاجين إليها فى المنازل والمحلات التجارية.
فى ثلاثينيات القرن التاسع عشر تقاضى السقا ثمنًا لسعة القربة الواحدة 10 فضة مضروبة فى عدد مرات توريد القرب بعد أن يحسب مجموع العلامات التى كان يرسمها خلف باب المنزل فى كل مرة توريد، وفى المواسم والأعياد الدينية مثل شهر رمضان والموالد والأفراح وحفلات الختان.. الرزق واسع.
وبجانب توريد المياه كان عليه أن يكون متأهبًا وقت اللزوم للعمل كرجل إطفاء، فإذا كان فى فترة عمله عليه ترك ما بيده، والذهاب بقربته المملوءة إلى مكان الحريق للمساعدة فى إطفائها، وفى أوقات فراغه وجب عليه رش الأسواق والشوارع الترابية وأمام المحلات التجارية، وتوزيع المياه على السائرين العطشى مجانًا.
بعد ما يزيد على 1000 عام من خدمة طائفة السقائين للمصريين سطر الخديوى إسماعيل بداية النهاية للطائفة عندما أمر بردم الخليج المصري، ومنح امتياز ضخ المياه للمنازل لشركة "كوردييه"، والتى عرفها المصريون باسم "كوبانية الميه"، ولم تكن أنابيب المياه قد امتدت إلا فى منازل الأثرياء الذين يستطيعون دفع النفقات الباهظة التى كانت تفرضها شركات المياه الخاصة على طالبى المياه النظيفة، ولكن شركة "كوردييه" كانت تريد مزيدًا من المكاسب الطائلة، ولذلك عممت حنفيات المياه الكبيرة والعمومية فى الأحياء التى يصعب على سكانها جلب المياه من الترع أو الخليج.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة